التقرير البريطاني الذي قدّم صورة شديدة السواد للوضعين الاقتصادي والإنساني في سورية، طرح سؤالاً عما إذا كان التدهور الاقتصادي المريع الذي تشهده بلاد الشام، سيكون السبب في انهيار نظام بشار الأسد عسكرياً أو في فرض تسوية من خارج لا تلائمه، أم أن المزيد من الهزائم العسكرية لجيشه سيمهد الطريق إلى انهيار حكومته اقتصادياً.
والحقيقة المفزعة أن الجواب في الحالتين هو انهيار سورية كبلد ودولة قبل أن تنهار كنظام، إذا استمرت الحرب من دون حسم. وسواء سبق الانهيار الاقتصادي العسكري أو العكس، فإن النظام مآله إلى زوال، أما سورية التي نعرف فلن يبقى منها كلما طالت مأساتها سوى شبه بلد ممزق معدوم الموارد يسوده التناحر الأهلي.
وفي الحالتين أيضاً يتحمل الأميركيون المسؤولية الكبرى عن المراوحة العسكرية والسياسية الحالية. فهم الذين يملكون مفاتيح الحلول، لكنهم يضعونها في جيبهم بانتظار إما أن تنقضي ولاية اوباما الثانية ويورث الملف الشائك إلى الرئيس المقبل، وإما أن يحصل تطور غير متوقع يجعل واشنطن تسارع إلى الالتفاف عليه لضبطه والتحكم بمساره. لكنها في وقت تفاوض إيران على دورها ونفوذها، تحرص على الحيلولة دون حصول أي تغيير في الوضع القائم.
يقول التقرير الذي أعده مركز «تشاتام هاوس» البحثي في لندن أنه على رغم تراجع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها نظام الأسد، إلا أن الدولة السورية بمؤسساتها الإدارية لا يزال لها وجود في المناطق الخارجة عن حكمه، ولا تزال الليرة السورية عملة التداول الرئيسية في الكثير من هذه المناطق وتتم بها عمليات شراء وبيع السلع وتسديد ثمن الخدمات.
ويشير إلى أنه في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد و «داعش» يتقلص تدريجاً نفوذ الدولة الاقتصادي، في حين تلعب المساعدات الإنسانية التي تصل عبر الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدور نفسه في بقية مناطق المعارضة.
وهذا يعني أن استمرار الحرب سيؤدي في النهاية إلى انهيار ما تبقى من فكرة الدولة السورية، وظهور دويلات على أرضها، وزوال عملتها التي خسرت في أربع سنوات 78 في المئة من قيمتها بعدما فقد الاقتصاد السوري خمسين في المئة من قيمته الفعلية التي كان عليها في 2011.
ويعني ذلك أيضاً أن القوى التي تمانع في حسم المواجهة مع النظام بحجة أنها تريد المحافظة على ما تبقى من المؤسسات السورية، وتتمنع عن تقديم وسائل تحقيقه، إنما تطيل عمر الأزمة وتمهد للانهيار الكامل، بقصد أو من غير قصد. وهذا ما يلخصه موقف الولايات المتحدة «اللامبالي» وفقاً لترتيب أولوياتها، وموقف اوروبا المتلهية بمعالجة ذيول الأزمة السورية وتبعات اللجوء إلى أراضيها.
لكن لا يعقل أن الدول، وخصوصاً الكبرى، تتصرف بـ «سذاجة» أو «حسن نية»، بل لا بد أن لديها سياسات تعتمد وتطبق في الملفات كافة، سواء كانت مهمة أو هامشية، ولا بد أن هناك سبباً أو أسباباً وراء موقف التفرج على النزف القاتل على أرض سورية، والتلكؤ في البحث عن حلول أو تشجيع آخرين على إيجادها.
ولعل الأميركيين لا يزالون يرون النصف الملآن من الكأس السورية، وينتظرون أن يخسر الاقتصاد السوري الخمسين في المئة الباقية من قيمته، أي الاندثار الشامل، قبل أن يقرروا أن الوقت ربما حان لرحيل الأسد.