في علم الفيزياء السياسية، أن الحرب تنشأ وتولد وتتأسس وتنبثق، من المعادلة التالية: حين يقوم طرفان اثنان، على أرض واحدة، بقراءتين متناقضتين لحدث واحد. آخر تجسيد عملي لهذه القاعدة العلمية الجامدة، ما حصل في اليمن منذ 26 آذار الماضي. هناك ثمة أرض واحدة. عليها طرفان: الحوثي والسعودي.
وهناك أيضاً، كان ثمة حدث واحد، اسمه الاتفاق بين إيران وأميركا والغرب، حول الملف النووي. هكذا، في لحظة من تطور المواقف، قرأ الحوثيون أن الاتفاق المذكور سيشكل فرصة لهم من أجل تمدّد سيطرتهم على كل اليمن. بحيث يشكل التقارب الإيراني ــــ الغربي عنصر قوة لحلفائهم في طهران، وبالتالي عامل دفع لهم، وتغطية دولية وغربية لنفوذهم، كجزء من النفوذ الإيراني الذي بات متناغماً مع السياسات الغربية، بحسب القراءة الحوثية. فحزموا أمرهم ومشوا صوب الجنوب.
في المقابل، أجرى السعودي قراءة للحدث نفسه، بشكل مناقض. فهو اعتبر أن لحظة الاتفاق الغربي ــــ الإيراني ستشكل «المومنتوم» المثالي له للدخول إلى اليمن، وضرب الحوثيين فيه. وذلك على خلفية أن واشنطن الذاهبة إلى اتفاق الحد الأدنى مع خصمها الإقليمي، طهران، والتي تواجه ضغوطاً كبرى من حلفائها في الكيان الصهيوني، على خلفية هذا الاتفاق بالذات، لا بد أن تفكر بأن أي ثمن جانبي يمكن أن تدفعه لاسترضاء الحلفاء، سيكون مقبولاً. وأن أي ملف ثانوي بالنسبة إليها، يمكن أن تجعله جائزة ترضية لأصدقائها، تعويضاً عن اتفاقها مع طهران، سيكون عاملاً مساعداً على تقطيع موقفها الراهن. اقتنع السعوديون بفرصتهم، وبدأوا قصفهم من الجو.
هكذا، في لحظة واحدة، على أرض واحدة، وحيال حدث واحد، اعتقد كل من الحوثي والسعودي أن الفرصة متاحة أمام كل منهما، للسيطرة على اليمن. فكان الصدام فيزيائياً، وكانت المعركة عسكرياً وميدانياً. وكانت الحرب على اليمن، كما تقول لعبة الأطفال بالعصي، على دائرة مقفلة من رمل وتراب… بعد أسابيع أو أشهر أو سنوات، أي من الطرفين سيبدو مصيباً في حساباته؟ مسألة متروكة للخسائر والاستنزاف والأثمان المدفوعة بشرياً ومادياً. غير أن مسألتين يمكن الجزم في نتائجهما منذ اللحظة. أولاً أن اليمن كوطن ودولة سيكون قد دمر. وثانياً، أن واشنطن كممسكة بخيوط مسرحنا، كما في مسرح الدمى، ستتكيف مع أي نتيجة تبلورها الدماء والآلام اليمنية. فإذا ربح الحوثيون، ستوحي لطهران بأنها كافأتها على إقدامها صوب الغرب نووياً. وإذا تقدم السعوديون ستفهمهم بأنها هي من أعطاهم جائزة الترضية تلك، ليطمئنوا ويمشوا باتفاقها النووي. وإذا استنزف الطرفان طويلاً، من دون حسم ولا حزم، ستكون هي من سيلجأ إليه الجميع، من أجل صياغة تسوية تنزع اليمن من خارطتي النفوذين الإيراني أو السعودي، وتجعله أرضاً محايدة برعاية أميركية شبه مباشرة.
هو حساب مكيافللي بامتياز، قد يقول البعض. لكنه يظل حساباً مكشوفاً. لم تخفه واشنطن، ولم تخجل به. حتى أنها عرضته أمام شاشاتها الوطنية أمس الأول. يوم جاءت برئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، وجمعته برئيسها باراك أوباما. ثم أنزلته في مقر ضيافة البيت الأبيض، في بلير هاوس. ليعقد من هناك بالذات مؤتمراً صحافياً، يعلن فيه أن حرب السعوديين على اليمن عمل «لا منطق فيه». وأنه ستترتب عليه كوارث إنسانية كبرى. وأنه يشبه ما أقدم عليه صدام حسين. ولم يكتف خليفة نوري المالكي بهذا الموقف من بيت أوباما، بل أضاف أنه توافق مع مسؤولي الإدارة الأميركية حول تلك القراءة. فخرج طبعاً ناطق أميركي ببيان معلوك، من نوع أننا «لم ننتقد السعوديين». فيما فقد عادل الجبير صوابه واستدعى الصحافيين أنفسهم ليرد من مقر السفارة السعودية في واشنطن، على ضيف واشنطن في مضافة البيت الأبيض!
شيء ما من سياق الحرب على اليمن، يذكر بسياق الحرب على لبنان. مع بعض الفوارق والمفارقات طبعاً. لكن تبقى مشتركات عديدة، من الانقسامات العامودية للمجتمع، ولعنة حصرية الحدود، وأطماع الخارج وأحادية الشقيق والعدو، وحسابات البحر من أمامك والمجهول من ورائك… لكن رغم تلك الفوارق والجوامع، تظل المأساة الكبرى في أن فريقي الصراع الأساسيين في بيروت، لا يزالان يعتقدان بأن ما يحصل في المنطقة، وفي اليمن تحديداً، سينتهي إلى انتصار كامل لفريق وهزيمة كاملة لفريق آخر. وهو ما يؤجج رهانات هنا، وأوهاماً هناك. فيما الصورة الدقيقة للوضع تشير بوضوح، إلى أن موازين القوى الثلاثة، لبنانياً، وإقليمياً ودولياً، تتجه إلى تكافؤ طويل جداً. وبالتالي إلى استدامة النزاع أكثر من قدرة أي طرف لبناني، وبالتالي أكثر من قدرة لبنان كوطن ودولة، على البقاء والحياة. هكذا يصير دفش الاستحقاقات اللبنانية إلى ما بعد انتظار الاستحقاق اليمني، وإلى ما بعد ما بعد نتائجه، نوعاً من أنواع الموت البطيء، أو الانتحار بالامتناع عن التنفس. فهل من يعي ذلك؟!