نعود إلى بيروت التي أنهت انتخاباتها البلدية والاختيارية على شيء من الخير والسلامة، تمكن من خلالها تيار المستقبل من تجاوز الكثير من المزالق والمطبّات المتعلقة بتراجع الكثير من أوضاعه على مستوى الساحة البيروتية الشعبية، وكان في طليعة الملاحظين لهذه المستجدات الشيخ سعد الحريري نفسه، بعد عودته من المملكة العربية السعودية وقراره بالإقامة الدائمة في بيروت، وكان واضحا أن الأجواء العامة في العاصمة كانت تسودها بعض الأجواء الإنتخابية المضطربة وغير المطمْئِنة. وقد تمثل ذلك في نتائج الانتخابات البلدية في العاصمة التي لطالما كانت معروفة بأنها معقل الرئيس رفيق الحريري ونقطة انطلاقه الرئيسية التي تمددت أطرافها حتى وصلت إلى سائر امتدادات الوطن، وبصورة خاصة في مناطق الشمال، وبالتحديد في مدينة طرابلس الفيحاء، وهي المدينة التي شهدت سنوات من المعاناة ومن عمليات الاحتراب مع النظام السوري ولواحقه على الساحة الطرابلسية، من دون أن ننسى تلك المعاناة الموازية التي طغت عليها وتناولت بشكل خاص أحياءها الشعبية التي تراجعت أوضاعها الاقتصادية والمعيشية إلى حدود أصبحت من خلالها المدينة الأشد فقرا ومعاناة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل الزعماء والقادة الطرابلسيين الذين مرّوا على تولّي مسؤولية السلطة والحكم في هذه المدينة المنكوبة، قصّروا أشد التقصير في معالجة أوضاعها وتحقيق حدٍّ أدنى من النتائج الملموسة التي تعيدها إلى وضع شبه طبيعي يؤمّن للمواطن الطرابلسي بعضا من أمنه المعيشي وأمانه الحياتي.
وطرابلس كما عرفناها معقل عربي أصيل، عانى من طغيان النظام السوري عليه، وعلى شعبه المرتبط بعلاقات تاريخية متطورة قائمة ما بين البلدين وبين الشعبين، موجات وطنية وقومية أصّلها لدى الطرابلسيين أيمان صادق وعميق لديهم تمثل خاصة بالتوجهات السياسية التي لطالما التحمت بالتيارات العربية الأصيلة، الممتدة إلى المحيط العربي الواسع والمتغلغلة في مجمل العلاقات اللبنانية الداخلية، وقد لعب فيها القادة الطرابلسيون التاريخيون رحمهم الله، أدوارا هامة ومشهودة، وفي المراحل الأخيرة، مرّت على طرابلس جملة من الحروب والانتكاسات والانتهاكات المادية والمعنوية، وإذا بالقيادات الطرابلسية المستحدثة تفقد من رصيدها بما فيها قيادات تيار المستقبل التي اكتشفت فجأة أنها الخاسرة الرئيسية في تلك الانتخابات المزلزلة التي قادها الخارج من صفوف التيار، اللواء ريفي، بروح لملمت إليها أطيافا طرابلسية واسعة، بحذق وبراعة وحرفية سياسية وشعبية مشغولة، فكان أن اكتسح الساحة الطرابلسية رافعاً رايات وشعارات الحريرية السياسية المنطلقة من منابع القناعات الشعبية الطرابلسية التي انهكتها المعاناة من كل ظروف الحياة المعيشية والاحترابية الصعبة، ومن ظروف المعاناة المعنوية التي قلبت أوضاعها العامة رأسا على عقب.
لقد فازت لائحة اللواء ريفي في طرابلس، وأصبحت نتائجها بعضا من الماضي القريب.
ماذا بعد الآن عن المتوقع من النتائج التي بدأت تحوم معالمها في الأجواء العامة؟
الرئيس الحريري نفسه ملتزم حتى الآن بالصمت والتدارس والترقب، وقد دعا إلى انتخابات قيادية قريبة ويبدو أنه على أبواب اتخاذ اجراءات تغييرية وتطويرية هامة يعمد من خلالها إلى أجراء تعديلات في مواقع القيادة والمراجع الاستشارية وفي بعض الهيئات التنفيذية لدى التيار التي أثبتت في كثير من الأماكن بما فيها بيروت، عقما وتراجعا واهتزازا تجلّى في النتائج المتواضعة التي تحققت وسط تقاذف المسؤوليات، مما استدعى في وقت كان متأخرا مع الأسف، نزول الرئيس سعد الحريري شخصيا إلى تولّي شؤون المعركة الانتخابية بنفسه على أرض عطشى إلى وجود مسؤول طائل وقادر، خاصة بعد أن طال غيابه عن لبنان لسنوات عديدة كانت كافية لخلق كثير من التفسخات في الأراضي اللبنانية عموما، بدءا من العاصمة بيروت ووصولا إلى البقاع والشمال وسواها من المناطق، حيث حطّ الرحال بالجمّال في الأرض الطرابلسية التي أثبتت أنها كانت الأشد تفسخا واهتزازا ونتائج عملانية مزلزلة.
– الرئيس الحريري… على صمته المتحفز حتى الآن، وهو يَعِدُ بالإفصاح عن خبايا كثير من الأوضاع والنتائج.
– اللواء ريفي… انطلاقا من تصرفاته و«طحشته» على مسرح الأحداث وطموحاته السياسية القائمة على مستوى طرابلس، وربما على مستوى لبنان، قد أطلق بعد الانتخابات جملة من التصريحات والمواقف التي تشبث من خلالها بمواقفه ومواقعه الحريرية المعلنة من دون أن يوصد الأبواب أمام معالجات لعموم الأوضاع التي باتت بعد الزلزال الذي حصل، تحتاج للمداراة والمعالجات المستعجلة والحكيمة.
– الوزير نهاد المشنوق… أدخل نفسه في خضم الأحداث الهائجة، كأنما هو يأبى إلاّ أن يكون عاملا أساسيا من عوامل الصراع السياسي القائم! هل أقدم على ما قام به بتنسيق مع الرئيس الحريري؟ هل تطرّق إلى الموضوع المتعلق بالمملكة العربية السعودية بتفاهم على ما حاصل، مع قيادتها الجديدة الممثلة خاصة بولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، ملقيا المسؤوليات السابقة على القرارات المتخذة في عهد القيادة السعودية في عهد المرحوم الملك عبدالله.
– هل كان تدخل الوزير المشنوق في هذا الأمر الحسّاس وحمّال الأوجه، دفاعا عن تيار المستقبل ورئيسه الشيخ سعد، أم خوضا لغمار نزاع ما مع الوزير ريفي الذي انطلق منذ مدّة، حين اتهم الوزير ريفي زميله الوزير المشنوق بالرجوع عن قرارهما المشترك السابق بالاستقالة المشتركة طعنا بالحكم الصادر بحق ميشال سماحة، إلاّ انه استقال وحيدا بينما رجع الوزير المشنوق إلى قواعده الوزارية سالما ومستمرا.
– وانطلاقا من مقولة الوزير جنبلاط الأخيرة من أن هناك عملية تحجيم لسعد الحريري وأن كلّا من الوزيرين ريفي والمشنوق لا يريدان له أن يكون الزعيم الأوحد في لبنان، والمقولة الاستطرادية للوزير جنبلاط لجهة أن الخوف من أن يكون التحجيم مقبلا إلى الشيخ سعد من أقرب الناس وأهل البيت، ومن دعوته إلى الحذر الشديد من «أقرب المقربين»، فهل هذه المقولة تعبّر عن حقيقة ما كامنة في كواليس ما، أم هي تدخل مستجد للوزير جنبلاط في إطار الساحة السنية التي شهدت في المدة الأخيرة عملية شدّ حبال متكررة مع القيادة الجنبلاطية؟
– وهل تصريح السفير السعودي الأخير بكل تفاصيله وكل مضامينه الظاهرة والخفية، يعبر عن الرأي السعودي وموقفه الحديث المستجد؟ وفي مطلق الأحوال، ما هي حقيقة الموقف السعودي الذي تتخذه قيادته الجديدة حول مجمل الأوضاع في لبنان وفي الطليعة موقفها المتحفظ والمتراجع على مجمل الساحة اللبنانية.
إنها زوبعة عنيفة حاصلة في لبنان (وليس في فنجان)، صراع تداخلت فيه دولة اقليمية كبرى مع عناصر قيادية محلية لبنانية وسعودية، ومع طبخات مصيرية يجري إعدادها وتنفيذها على المستوى الإقليمي والدولي الشامل.
إنها ألغاز متتالية تعصف في هذه الساحة المنكوبة، وينطلق المواطنون فيها للتساؤل: أين هو الواقع؟ أين هي الحقيقة؟ إلى أين ستجنح بنا التطورات المنتظرة، وسيكون الرأي ناقصا إن لم ينته صمت الشيخ سعد وإن لم يقل هذا الرجل المستهدف على ما يبدو من أكثر من جهة وهو يصرح بأنه سيقول كل شيء خلال مناسبات هذا الشهر الفضيل، وعليه، إننا منذ الآن، في موقع الانتظار والسمع الحريص والمتيقظ استقراءً لأحداث هامة قد تكون مقبلة.