مرة جديدة، «يكوِّع» وليد جنبلاط. وعندما يُسأل القريبون منه عن المبررات، يجيبون: إذا كنت تقود سيارة في منعطفات خطرة، من البديهي أن «تكوِّع» حيث يجب، وإلا فمصيرك الاصطدام أو السقوط في الوادي. وجنبلاط يتجنب إيصال الدروز إلى هذا المصير.
في الأشهر الأخيرة، قرأ جنبلاط إشارات خطرة في المشهد الإقليمي. فالشرق الأوسط كله يترنّح نتيجة زلزال غزة. وقد تكون العواقب وخيمة في لبنان، إذا لم تعرف القوى الداخلية كيف تتجنب التشنج والمغامرات.
تريد حكومة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل الاستفادة من الفرصة المتاحة لتصفية القضية الفلسطينية. وفي المقابل، تقاتل إيران بشراسة لحماية نفوذها في الإقليم. وهذا يعني أن لبنان سيكون رهينة هذا الصراع المفتوح بلا حدود ولا أفق زمني. وقد يدفع ثمناً باهظاً نتيجة لذلك.
يرى جنبلاط أن لبنان هو اليوم في الوضع الأخطر على الإطلاق. ففي بعض الحروب التي شنتها إسرائيل خلال نصف القرن الفائت، كان لبنان غارقاً في حرب أهلية، ولكن، كان هناك توازن دولي وإقليمي بقي يوفّر الحماية للبلد. وهذا التوازن أنتج اتفاق الطائف في العام 1989. وحتى حرب تموز 2006 كانت أقل خطراً على لبنان، لأن ركائز البلد السياسية والاقتصادية والأمنية لم تكن مهتزة حينذاك، ولم يكن الإقليم في وضعية ملتهبة كما هو اليوم.
يعتقد جنبلاط أن «حزب الله» هو اليوم في موقف دقيق، لأنه يخوض معركة الحفاظ على قوته واستمراره، وهو يقاتل إسرائيل ويتكبّد أثماناً غالية بالمقاتلين والعتاد. ومن أجل الحفاظ على الرأس، يصبح كل شيء وارداً. ولذلك، على الأطراف كافة في لبنان أن يلتزموا جانب الحكمة والتعقل. ولا بأس من تدوير الزوايا في هذه الفترة لتمر العاصفة، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
هل يعني هذا أن جنبلاط يخاف من حصول 7 أيار جديدة؟ يقول العارفون: نخشى حصول صدام داخلي معين، ليس بالضرورة أن يتخذ شكل 7 أيار. فهذا ليس مستبعداً إذا تصاعدت التشنجات والتحديات. فهل نتحمل مغامرات داخلية في هذه اللحظة الإقليمية الحرجة؟ وهل هناك أحد في العالم مستعد للاهتمام بنا في ظل الحروب والتوترات من غزة والجنوب واليمن إلى أوكرانيا؟ وهل نجحت اللجنة الخماسية في إحداث أي خرق في أزماتنا، من الحرب على الحدود إلى انتخاب رئيس للجمهورية؟
يخشى جنبلاط أن تبقى الخماسية في المراوحة لأنّ القوى المعنية في الداخل والخارج لم تحقق ما تريده من مكاسب، فيكون لبنان بلا مظلة واقية. وعلى اللبنانيين أن يتدبّروا شؤونهم فلا ينزلقوا إلى الكارثة بأنفسهم.
هل بهذه الخلفية قاطع جنبلاط لقاء معراب؟ صحيح. ونحن لا نتنكّر للمعارضة، لكننا نعتقد أن المرحلة تفرض علينا أسلوباً آخر في مقاربة المسائل المطروحة. وفي أي حال، لكل طرف سياسي أن يختار الطريق الذي يراه مناسباً.
هذا التموضع السياسي الجديد سمح لجنبلاط في الأسابيع الأخيرة بتفعيل قنوات الاتصال بينه وبين «حزب الله» على مستويات رفيعة. أما التواصل بينه وبين الرئيس نبيه بري فقد بقي رهان جنبلاط الدائم. وفي تقديره أن بري هو الحلقة الوحيدة القادرة على التحرك في كل الملفات المطروحة، من المفاوضات مع عاموس هوكشتاين حول الجنوب وترسيم الحدود، إلى الحوار الداخلي وملف الانتخابات الرئاسية.
وقد يكون اللغز في موقف جنبلاط، الخطة التي أعدها الحزب التقدمي الاشتراكي لمعالجة ملف النازحين السوريين في لبنان. فمن اللافت أن جنبلاط يقترح فتح قنوات اتصال بين الحكومتين اللبنانية والسورية لمعالجة هذا الملف. وفي رأيه أن هذا الاتصال لا يجوز اعتباره تطبيعاً للعلاقات السياسية مع النظام، وأن المفاوضات حول الملف يمكن أن تتصِف بالطابع التقني والإجرائي والأمني، ولا تتعدى ذلك.
وهنا يسأل بعض المتابعين: هل يمكن فعلاً حصر الاتصال مع دمشق بالجوانب التقنية وتجنّب الانزلاق إلى الجانب السياسي؟ وهل تُوافق دمشق على ذلك أساساً أم تستفيد من الفرصة للدفع نحو التطبيع السياسي؟
البعض يعتقد أن فكرة التواصل مع دمشق ربما تكون هي «القطبة المخفية» الكامنة وراء طرح الخطة. فجنبلاط ربما يعرف أن لا مجال حالياً لتحقيق أي إنجاز في ملف النازحين الشائك، لكنه يريد من خلاله قرع الباب لا أكثر، وتوجيه رسالة مفادها أنه يتموضع في موقع جديد، وأنه على الأقل بات يوافق على نوع معين من التواصل مع دمشق. فـ«للظروف أحكام»، كما يقال، و«ألف قَلبِة ولا غلبة».