تمثل مدينة عاليه مفتاح القضاء والجبل. لافت فيها انحسار الحركة مع اقتراب الصيف، أبواب كثيرة أُقفلت، وأُسدلت معها حكايات المدينة الجبلية الحلوة التي لم تخرج فعلاً من الحرب فبقيت تتأرجح بين نوايا إنهاضها مجدّداً، وبين العثرات المتتالية سياسياً واقتصادياً. فالأزمة الاقتصادية تضرب فيها، كما تضرب معظم المناطق ذات الوجه الاقتصادي، وأسواق جبل لبنان نموذج واضح عن إقفال محال تجارية وعن تضاؤل حركة البيع والشراء في ما تبقى منها. لكن ما تعيشه عاليه وهي واجهة الجبل الذي يعيش كل صيف تحديات سياسية واقتصادية، وأحياناً أمنية، تشبه الحالة السياسية المنحسرة في الجبل، فرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط أيضاً يقفل نصف أبوابه السياسية ويبقي النصف الآخر مفتوحاً. الأكيد أن الجبل يمثل في تراجع الحركة الاقتصادية أضعاف ما تعيشه عاليه، حيث المدينة تفتّش دائماً عن أبواب رزق جديدة، لكن جنلاط يعرف تماماً معنى هذه الخسائر وارتدادها على كل الجبل. لأن الأزمة الاقتصادية، التي تعم لبنان، تضرب المناطق الجبلية بشكل مضاعف، خصوصاً في البيئة المقفلة على انعدام المشاريع الحيوية واستمرار الهجرة وهاجس الأمن الدائم. وهو حين يقف في الجبل بالمعنى الاقتصادي الذي نبه إلى خطورة انعكاسه غذائياً واجتماعياً، يقف أيضاً على مفترق طرق أساسي، بين اتجاهات كثيرة متشعّبة، لكن تضيق بها الخيارات السياسية.
لا شك أن بيع الأراضي في الجبل كان من أوائل هواجس جنبلاط، كما كان «تطويق الجبل» في كل الاتجاهات. والأزمة المالية والاقتصادية اليوم قد تكون اليوم سبباً إضافياً للخشية من تحول أعمال العقارات إلى سوق مفتوح على تحولات تُثير أسئلة عن مستقبل القرى والبلدات التي تئنّ من تدهور أوضاعها نتيجة سنوات الحرب ومن ثم الإهمال، فتصبح إغراءات البيع الأكثر حضوراً.
موقع جنبلاط اليوم، كما في كل مرة تحتدم الأوضاع السياسية والاقتصادية، يعكس جانباً من حالات الخوف على الجماعة وعلى البلد ككل، ومن التحالفات التي لم يعُد يملك مفتاحها لوحده. منذ سنوات يضرب جنبلاط عميقاً في سياسته ضد التيار الوطني الحر ويهاجم العهد بقوة، لكنه فجأة يزور قصر بعبدا. يحالف القوات اللبنانية مبدئياً منذ عام 2005، وينتهز أي فرصة متاحة لينتقدها بشدة. يعارض حزب الله بالمطلق ويهادنه أيضاً بالمطلق لحظة الشعور بأيّ خطر. يُفترض أن يكون حليف الرئيس سعد الحريري لكنهما لا يلتقيان إلا حين تصبح الظروف ملتبسة وقاتمة، بعدما تغيّرت وجهة الحريري أكثر من مرة ولا سيما في تسوياته الكثيرة مع رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل. وحده الرئيس نبيه بري يبقى دائماً مرتكزه والحلقة الأقرب. لكن المشكلة أن ما كان يمكن معه التحايل على الزمن خلال السنوات الماضية من خلال إمساكه بمشهد التحالفات هذا، بات يحتاج إلى كثير من الدراية والحنكة في وقت تصعب فيه الأزمة في شكل لم يشهده الرجل الذي عايش الاغتيالات والحروب والتهجير والتحالفات والاتفاقات العربية والدولية.
العلاقة مع القوّات تحتاج كلَّ مرةٍ إلى عناية فائقة، حين يختار جنبلاط القفز فوق تحالفه معها إلى الشريك الآخر أيّاً كان
اليوم ثمة مشكلة أساسية أمام جنبلاط، لا تتعلق بتحالفاته العربية وشبكة علاقاته الدولية الثابتة. بل تكمن في افتقاده إلى الندّ السياسي عموماً، وفي الجبل، إذ يصبح المطلوب الند المسيحي الذي يمكن أن يُبرم معه اتفاقاً ويبني معه الجيل الجنبلاطي الجديد شيئاً ما للمستقبل. بعد انحسار الحالة الشمعونية وصعود القوات اللبنانية ومن ثم التيار الوطني الحر، بات الجبل واقعاً بين أزمات ثقة تشتدّ وتخفت تبعاً للظروف. واليوم وعلى أبواب انتخابات يُفترض أن تُجرى مبدئياً السنة المقبلة، ومعها محاولات وضع أطر حل للأزمات الداخلية استعداداً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، تصبح المحاولة الجدية للبحث عن حلفاء مسيحيين عموماً وفي خاصية الجبل، بالمعنى الحقيقي أمراً يحتاج إلى كثير من العناية. لا بكركي هي نفسها التي بنى معها جنبلاط المصالحة التاريخية، وخصوصاً بعد أزمات ثقة بين مطارنة ينتمون إلى التيار الوطني الحر والمختارة، ولا الشخصيات السياسية التي كانت تمثّل قاعدة غير حزبية، لا تزال على الإيقاع نفسه، ومن الحضور السياسي الفاعل في الجبل. هناك شخصيات من غير الطبقة السياسية يمكن لجنبلاط أن يكون على تماس معها، لكن الثقل السياسي يحتاج إلى رافعة لا تزال غائبة، في ظلّ الأخطاء التي ترتكبها قيادات الأحزاب المسيحية. فالمصالحة المصطنعة مع التيار عام 2019 سقطت، ومع حادثة قبرشمون كادت الخطوط الحمر تسقط أيضاً، وجنبلاط الذي يختار بدقّة توقيت زيارة بعبدا عند اشتداد الأزمات، يخشى من خطورة ترك الجبل بين أيدي هواة في السياسة وفي معرفة خصوصية الجبل وتاريخه، بعد ارتدادات حروبه الموجعة. وهو وإن كان لا يحتاج إلى مصالحة مع القوات إلا أن العلاقة بينهما تحتاج كل مرة إلى عناية فائقة، حين يختار جنبلاط القفز فوق تحالفه معاً إلى الشريك الآخر أيّاً كان، الحريري أو بري أو حزب الله، أو عند الضرورة العهد وتياره. يقول سياسي إن المشكلة الأساسية في الجبل لا تتعلّق فقط بالوضع الراهن، بل بزمن تخلّى الموارنة عن ثنائيتهم مع الدروز لصالح الميثاق الوطني مع السنة وصياغة مناصفة مرحلة الاستقلال. كما فعل لاحقاً فريق من الموارنة حين صاغ اتفاقاً مع حزب الله. لكن بقدر ما ارتكب جنبلاط من أخطاء أيام الحرب، وبقدر ما أنه مستمرّ في لعبة ترك الأبواب مغلقة على البعض ومفتوحة نصفياً على البعض الآخر، فإن مرحلة الانهيار الحالي أصبحت أكثر تطلّباً لتحالفات تعيد، حتى إليه، التوازن السياسي، المدعوم خلفياً، الذي يفقده في تعاطيه مع الحلفاء والخصوم. لكن صياغة مثل هذه العلاقات التحالفية أو الندّية، تحتاج في المقلب الآخر، إلى قيادات وزعامات سياسية لا أنصاف آلهة وقدّيسين.