قال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط منذ أيام، في تغريدة له “لا ينطقون إلّا بالتهديد والوعيد. يا أهل ما يسمى بالممانعة، أذكّركم بأنّه قبل أن تحضر جحافلكم كان الحزب الاشتراكي ولاحقاً الحركة الوطنية، يواجهان اسرائيل. فكفانا مزايدة. لكن نؤمن بلبنان المتنوّع الذي تريدون الغاءه. لبنان العربي، لبنان الرسالة الذي تريدون الغاءه، لبنان الحر غير المصادر”.
ما هو توقيت هذا الكلام؟ وما هي خلفياته؟
يشعر وليد جنبلاط بأنّه يتعرّض لهجمة مركزة شرسة، عبّر عنها عبر توصيف “التهديد والوعيد”، ولم يتردّد في اتهام “محور الممانعة” بالوقوف وراء هذه الحملة التي تشنّ عليه بعناوين مختلفة وعبر وسائل متنوعة، ما دفع به إلى وضع الإصبع على الجرح، وكأنّه يقول لمن يتهمهم بـ”التحريض” عليه، إنّ الرسالة وصلت، وفُهم فحواها!
في الفترة الأخيرة، وتحديداً منذ قرر جنبلاط الترويج لحكومة تفاهمية تعيد بعض الاستقرار السياسي إلى المشهد الداخلي، يحاول رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي التخفف قدر المستطاع من العناوين الخلافية. حاول النأي بنفسه وبناسه عن خطوط الاشتباك مع مختلف الأطراف السياسية، فكان أكثر من تخلى عن المطالب الوزارية، كما يقول المطلعون على موقفه، من باب تسهيل ولادة الحكومة وإفساح المجال أمام المبادرة الفرنسية كي تبصر النور وتتحول من ورقة إلى أفعال تنفيذية. مدّ يد التعاون مع رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري كي يتمكن الأخير من العودة إلى السراي الحكومي، ولو أنّ بعض الالتباسات سادت العلاقة الثنائية في بعض المحطات.
ثم عاد واستخدم خراطيم اطفاء الحرائق السياسية كي يزيح الأسلاك الشائكة من أمام نجيب ميقاتي لينجز ما عجز سلفه عن القيام به، في محاولة منه للإقلاع بالطائرة الحكومية بأقل أضرار ممكنة علّ ميقاتي ينجح في كبح الانهيار والتخفيف من تبعاته الاجتماعية والاقتصادية.
بالتوازي، كان جنبلاط، وفق المطلعين، يسعى لتأمين حضانة اجتماعية لناسه في الجبل، ولو بالحدّ الأدنى من الامكانات، في محاولة لتهدئة روع البركان الاجتماعي الآخذ في الغليان. وفي الوقت نفسه، يعمل على تمتين شبكة ربط نزاع سياسي مع خصومه التقليديين، بدءاً بـ”حزب الله” من خلال خطّ تواصل مباشر وغير مباشر لضبط المناطق المشتركة، ومع “التيار الوطني الحر” لمنع الاحتكاكات السلبية في الجبل، من دون أن يفجّر في المقابل أي قنابل خلافية مع “القوات” أو مع تيار “المستقبل” ولو أنّ العلاقتين ليستا في أحسن أحوالهما.
في المقابل، فقد حرص جنبلاط على عدم التخلي عن خطابه “السيادي” سواء ما خصّ ملف العلاقة مع سوريا أو في ما يخصّ، وعلى سبيل المثال، قضية النفط الايراني… وكل ذلك، مع الاحتفاظ بعلاقة استثنائية مع صديقه العتيق رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومع دول الخليج، فيما ساهم موقفه التسهيلي من الحكومة في تمتين علاقته بالإدارة الفرنسية وهذا ما أكدته السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو لصاحب العلاقة، وفق المطلعين على موقفه.
بالخلاصة، تمكن جنبلاط في المرحلة الأخيرة من إمساك العصا من وسطها لإدراكه ربما أنّها مرحلة التحولات الكبرى في المنطقة، ولا بدّ بالتالي من تهدئة اللعب على كل الجبهات، ولاقتناعه أنّ الرمال اللبنانية قد تبتلع كل من يحاول التصدي لها عنوة فقرر مواجهة العواصف على طريقة “إحناء الرأس”…
هذه الوضعية “المريحة” نسبياً، تشكل وفق المطلعين على موقف جنبلاط، عامل قلق إزاءه بالنسبة لخصومه، خصوصاً وأن سلوكه لا يظهر بأنه مغلوب على أمره، لا بل يتصرف بكثير من الاستقلالية والهامش الواسع. وقد تكون هذه الرسائل تهدف إلى تضييق هذا الهامش عشية الدخول في مدار الانتخابات النيابية وسط غموض يلفّ سلوك الحزب التقدمي التحالفي في هذا الاستحقاق، ما يدفع بخصومه إلى البحث عن إجابات عن بعض الأسئلة، ولكن من دون جدوى. ومنها مثلاً: مع من سيتحالف الاشتراكيون في الجبل والبقاع وبيروت؟ هل من الممكن تشكيل لوائح مشتركة مع “المستقبل” و”القوات”؟ أين “التيار الوطني الحر” منه؟ كيف يمكن “تقريش” الدعم الفرنسي لجنبلاط؟ ماذا عن الدعم السعودي له؟
كل هذه التساؤلات التي لا تزال من دون أجوبة حاسمة قد تدفع بخصومه إلى التصويب عليه، وفق المطلعين على موقف جنبلاط، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة التي يحاول فيها النظام السوري التقاط أنفاسه واستعادة بعض نفوذه في لبنان، وما الزيارة الموسعة التي قام بها الوفد الدرزي إلى دمشق إلّا رسالة واضحة باتجاه وليد جنبلاط الذي يعرف كيف يقرأها.