Site icon IMLebanon

جنبلاط في لحظات… “غير كلّ العمر”

 

 

الأرجح أنّها من أكثر اللحظات السياسية حراجة بالنسبة لوليد جنبلاط. تقسو عليه الظروف و”تحشره” بين نقيضين: تطورات المنطقة تحتّم الهدوء وتغليب المنطق التسووي كونه السائد اقليمياً، وبالتالي لا يمكنه مجاراة رفاقه القدامى في خطابهم “السيادي”، كما يطلقون عليه، وتحميل “حزب الله” مسؤولية كل البلاء الذي يصيب البلاد. في المقابل، فإنّ فريقه السياسي والحزبي جزء من منظومة متهمة بالتسبب بالانهيار المالي والاقتصادي بسبب لوثة الفساد التي تكاد تطيح بكلّ تركيبة، ولذا لا يجد له مكاناً في الاصطفاف المعادي لهذه المنظومة تحت العنوان الاصلاحي، ومع ذلك، من غير المعقول مخاصمة هذا التيار كونه مرغوباً شعبياً.

 

ولهذا، اختار الرجل في المؤتمر العام الـ48 للحزب التقدمي الاشتراكي أن يجمع الخطابين ويجعلهما متلازمين في المسار والمصير، ومتلاحمين في حاجتهما لبعضهما البعض، كي لا يغلب أحدهما الآخر في تصدّر الخطاب الجنبلاطي للمرحلة المقبلة التي تبدو بنظره مفصلية، لا بل أكثر من ذلك مصيرية – وجودية، ما أملى عليه أن يعود بجردته السياسية أمام كوادر الحزب إلى البدايات (تصفية بشير جنبلاط على يد بشير الشهابي)، مستعيداً شريط أبرز الأحداث التي عاشها وعايشها منذ أن ألبسه الشيخ محمد أبو شقرا عباءة زعامة المختارة بعد اغتيال والده في 16 آذار 1977. اختصر المعادلة بدقّ ناقوس الخطر: إنّه المصير والخوف على الوجود.

 

عاد وليد جنبلاط إلى جذوره لينبّه القيادات الاشتراكية إلى أنّ المعركة الحاصلة راهناً هي بنفس الطبيعة، معركة وجودية أيضاً، وذلك من باب شدّ عصب جمهوره وناسه عشية استحقاق نيابي مفصليّ (اذا حصل) ربطاً بالتطورات القادمة على المنطقة على صهوة تفاهمات يبدو أنّها لم تعد بعيدة، لا في الزمن ولا في الجغرافيا، على ما يعتقد الزعيم الدرزي، كما يقول عارفوه. وعليه، أعاد تنشيط ذاكرة الجنبلاطيين بالاستحقاقات الأساسية التي واجهها منذ انخراطه في الشأن العام، وليذكّر من سها عن باله بأنّه لا يخشى المعارك ولا يهرب منها، ولكنّ تقدير الموقف لا يقلّ أهمية عن خوض المعارك.

 

سرد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في خطابه كل المواجهات العسكرية والسياسية التي خاضها في تاريخه، كي يجيب على المتسائلين عما اذا كان رفع رايات الاستسلام أو التعب أو الهزيمة، وليبلّغ الاشتراكيين أنّ المعركة التي يواجهونها في هذه الأيام ليست فقط ذات طابع أمني أو عسكري، وإنما اجتماعي- اقتصادي ولا بدّ من مواجهتها بطريقة تناسبها. قال جنبلاط من دون أن ينطقها: نحن لسنا عاجزين عن المواجهة العسكرية أو الأمنية، ولكن هذا الزمن ليس زمانها. والتفكير بهذا المنطق سيكون كمن يقدم البلد مسرحاً لحروب الآخرين، ليكون بالنتيجة طبقاً دسماً على مائدة التسويات الكبيرة.

 

يعود جنبلاط إلى مربع المناداة بالحوار وهو المتيقّن أنّ المنطقة كلها تسلك المنحى الحواري، رافضاً السباحة عكس التيار والذهاب بالبلاد إلى انفجار قد يطيح كل شيء. وحين يُسقط هذه القاعدة على اليوميات السياسية، ينادي الرجل بالتخلي عن منطق الاستقواء وكذلك عن منطق التحدي والتهور، ويطالب بعدم عزل أي مكون سياسي، ويدعو إلى فصل المسارات، القضائي عن الحكومي، عن الأمني… فعلياً، هي سياسة الترقّب والانتظار بأقلّ الأكلاف الممكنة.

 

بعد 44 عاماً على جلوسه على كرسي زعامة المختارة، يبدو وليد جنبلاط بعيداً كلّ البعد عن منطق الرهانات والتهور. والأرجح أنه الأدق في وصف نفسه حين نشر صورة عبر حسابه على تويتر قال إنها “لحظة من العمر مع داليا وتوفيق سلطان في صوفر عند ليال فليحان”. هو في لحظات مختلفة عن كل العمر. يتصرف بكثير من الهدوء والتروي ويسعى إلى وضع حزبه على السكة ذاتها. لعلها مقتضيات العمر والتعلّم من كيس التجربة الشخصية، ولعلها الظروف التي تملي عليه هذا المسار.

 

في مطلق الأحوال، يسيطر القلق على ذهن الرجل منذ مدّة، من الانفجار الاجتماعي، من التطورات الأمنية، مما تخبّئه “انتفاضة 17 تشرين الأول”، وهو لم يخف هواجسه منها مشيراً إلى أنه لم “يرَ مساراً تغييريّاً حقيقيّاً بل انه شعار شعبويّ، خلقَ حقداً غير مبرّرٍ بين الأجيال، وحاول قطعَ أواصر الترابط الموضوعي بين الماضي والحاضر، ونجحَ إلى حدٍ ما، حرّكتهُ ماكينة إعلاميّة وسياسيّة قويّة، محليّة وعالميّة”… ومع ذلك بدا مرتاحاً حين تحلّق الاشتراكيون من حوله وقد لبى الدعوة للمشاركة في المؤتمر أكثر من 2700 حزبي وهو رقم فاجأ المنظمين نظراً للظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي قد تدفع أي شخص للتفكير عشر مرات قبل أن يدير محرّك سيارته.