عند كل إستحقاق حكومي، تطرح الطوائف الأساسية إشكالية حجمها ودورها ضمن النظام اللبناني، وظهر هذا الأمر جلياً من خلال تمسك “الثنائي الشيعي” بحقيبة المال.
ليس للدروز ما يفعلونه ضمن معركة صراع الجبابرة، فالطائفة الدرزية التي تعتبر مؤسسة للكيان اللبناني وقادت معركته الإستقلالية منذ بزوغ فجر الإمارة المعنية وانتصار العثمانيين على المماليك في معركة مرج دابق العام 1516، وتسلم الأمير فخر الدين الأول مقاليد الإمارة، ها هي تخوض اليوم قتالاً تراجعياً وتقاوم لكي تبقى فاعلة داخل التركيبة اللبنانية.
قبل توقيع “إتفاق الطائف” كان للدروز حصة مهمة داخل النظام اللبناني، فالحقائب السيادية لم تكن حكراً على طوائف، ويذكر الجميع المير مجيد إرسلان الذي تولى حقيبة الدفاع وقاد معركة المالكية الشهيرة مع إسرائيل ودخل الجيش اللبناني إلى الجليل، ويذكر الجميع أيضاً أداء مؤسس الحزب “التقدمي الإشتراكي” كمال جنبلاط خلال توليه وزارة الداخلية، وبالتالي فإن دور الدروز قبل “الطائف” كان أكبر بكثير من وقتنا هذا.
وخير دليل على التراجع الدرزي، هو تأليف آخر حكومة برئاسة حسان دياب، فبعد حصر الحقائب السيادية بأربع وهي: الدفاع، المال، الخارجية، والداخلية، تمّ إجراء تصنيف آخر وهي 6 حقائب أساسية وتشمل: العدل، الإتصالات، الطاقة والمياه، التربية، الصحة، الأشغال العامة، وحتى من ضمن الست الاساسية لم يستحوذ الدروز على أي حقيبة منها، فعينت منال عبد الصمد وزيرةً للإعلام ورمزي مشرفية وزيراً للشؤون الإجتماعية والسياحة.
وأمام كل ما يحصل، يدرك رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط أن موازين القوى ليست لمصلحة الدروز، في حين رفع رئيس الحزب “الديموقراطي اللبناني” النائب طلال إرسلان الصوت مطالباً بإنصاف الدروز، الذين يرون بأم العين الزحف الشيعي نحو مواقع الدولة والتمسك بوزارة المال والإستقواء بالسلاح وبالديموغرافيا، ويتطلعون إلى الزحف السني الديموغرافي في إقليم الخروب والثبات على مستوى الوطن والإمتداد الإقليمي والدولي لهم بفعل العلاقات التي نسجها الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتعدّد الرعاة الإقليميين لهم من السعودية والخليج مروراً بمصر وصولاً إلى تركيا حديثاً.
ومن جهة أخرى، يراقب الدرزي العودة المسيحية إلى الحكم والإستشراس في استعادة المواقع والدور الذي فقدوه، وقد ظهر ذلك من خلال الإصرار على انتخاب الرئيس القوي، ومن ثمّ إنتاج قانون انتخاب على أساس النسبية يعيد لهم حجمهم داخل النظام البرلماني.
وأمام كل هذه المعطيات، يحط جنبلاط في باريس في رحلة إستكشافية، لكن الأكيد أن جنبلاط ومعه الدروز لن يقفوا حجر عثرة في وجه ولادة الحكومة الجديدة ونسف المبادرة الفرنسية، خصوصاً انه تمّ إعطاء وعد للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالسير بالمبادرة وعدم تعطيلها، وقد كان الحزب “التقدمي الإشتراكي” من أول الذين أعلنوا عدم مشاركتهم في حكومة الرئيس المكلّف مصطفى أديب.
وتؤكد المعلومات أن جنبلاط لن يذهب إلى التصعيد في المرحلة المقبلة، بل يبحث عن قارب نجاة للبلاد ومعها الطائفة الدرزية، وهو قد ألحّ على الدروز منذ بداية ثورة 17 تشرين في العام الماضي على العودة إلى الأرض وتأمين الإكتفاء الذاتي لأن لبنان قادم على كوارث إقتصادية.
ويرى جنبلاط في المبادرة الفرنسية آخر خرطوشة يمكن أن تشكّل خشبة خلاص للبلاد، وإلا فإن الأمور مفتوحة على كل الإحتمالات والوضع سيتدحرج من سيئ إلى أسوأ، وبالتالي فإنه يقدّم كل التسهيلات لمبادرة ماكرون والرئيس أديب، لكنه في الوقت عينه لا يحبّذ أن تسير المبادرة بطريقة لا ترضي جميع الأطراف حتى لو اختار بعضهم وعلى رأسهم صديقه الرئيس نبيه بري رفع السقف.
معروف عن جنبلاط أنه قارئ ماهر للرياح الاقليمية والدولية، لذلك اختار أن يكون مثل السنبلة التي تلوي في وجه العاصفة، وترك للمبادرات الدولية أن تفعل فعلها، فإذا وجد من يقاتل عنه، لماذا يخوض هو المعركة، كما أن وضع ماكرون يده على الملف اللبناني يريحه لأنه لا يثق كثيراً بالأميركيين، ومن جهة ثانية، فإنه يضمن عدم إنتقام النظام السوري منه، فهو ما زال يجلس على ضفة النهر وينتظر جثة عدوه.