لا حاجة للتذكير أنّه في خضم المواجهات التي تخوضها موسكو مع محيطها الأوروبي، القريب، لن يكون للملف اللبناني مكانة متقدّمة على جدول أعمال اهتمام قيادتها، إلا من البوابة السورية التي دخلتها موسكو في العام 2015، لتصير شريكة بقوة الحديد والنار، في منطقة الشرق الأوسط، ولاعبة أساسية يصعب تجاوزها.
ولكن أبعد من ذلك، لم تبدِ روسيا أي اهتمام استثنائي في الملف اللبناني إلّا انطلاقاً من حرصها على عدم انزلاق الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية نحو فوضى أمنية غير مضبوطة. لهذا بدت محاولاتها الخجولة، عبر أصدقائها اللبنانيين، لترتيب الوضع الداخلي، محكومة بالكثير من الضوابط والموانع التي تحول دون فرض رغبتها على القوى اللبنانية، خصوصاً وأنّ أوراق تأثيرها اللبنانية محدودة نوعاً ما.
ومع ذلك، هي تحرص دوماً على تخصيص مساحة من الاهتمام بالملف اللبناني لا سيما عند المفاصل الأساسية، من باب المساعدة على منع تفجّر الوضع اللبناني وانجراره إلى مزيد من الفوضى غير المرغوب فيها من جانب القيادة الروسية. وهي لذلك، تبقي على خطوط التواصل قائمة مع أصدقائها وحلفائها القدامى، ومنهم رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط.
كان من المفترض أن يقصد رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» موسكو في الصيف الماضي، لكن اصابة مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف، يومها بفيروس كورونا، أدت الى تأجيل الزيارة في المرة الأولى، كما تأجلت مرة ثانية بسبب ارتباطات وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي أصرّ حينها على لقاء الزعيم الدرزي… فأسقِطت على التأجيل تأويلات لبنانية كثيرة من جانب خصوم جنبلاط ربطاً بتباينات بالرأي بين الأخير والقيادة الروسية بسبب مقاربتها لملفات المنطقة وتحديداً الملف السوري.
ولكن الزيارة عادت وحصلت، ما أسقط بالشكل، كل السيناريوات عن تردّي العلاقة بين جنبلاط وموسكو، ما يؤكد أنّ رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» كما القيادة الروسية حريصان على هذه العلاقة، حتى لو لم تكن تتكئ على تفاهم شامل، وهو أمر طبيعي، ولكن بالنتيجة ثمة تأكيد من الجانبين على المصارحة وابداء كل فريق وجهة نظره حتى لو لم يكن هناك تطابق بينهما، خصوصاً وأنّ القيادة الروسية تحرص على الاستماع إلى مواقف جنبلاط ورؤيته من ملفات المنطقة، كما يبدي هو بدوره اهتماماً بالاستماع إلى مقاربتها السياسية والاستراتيجية، في ضوء التطورات النوعية التي تشهدها المفاوضات النووية في فيينا، والمحادثات المتقطعة بين السعودية وايران.
مما لا شك فيه أنّ الملف اللبناني احتلّ سلم أولوية النقاشات الثنائية التي حصلت، وللمفارقة بالتزامن مع زيارة الوفد الايراني الرئاسي إلى موسكو، من باب طلب جنبلاط من الروس المساعدة في منع تعطيل المؤسسات الدستورية وما تبقى من هيكل الدولة الآخذ في التحلل، من خلال علاقتهم الجدية مع المسؤولين الايرانيين، والعمل على ابعاد لبنان قدر المستطاع عن حالة التوتر والتجاذب الحاصلة في المنطقة على وقع المفاوضات الجارية في فيينا، أو تلك الحاصلة بين ايران والسعودية، لا سيما وأنّ موسكو تبدي قلقها من خروج الوضع اللبناني عن السيطرة وتحوله الى بؤرة تهديد لمحيطه. وقد استعرض جنبلاط وجهة نظره من الأزمة الاقتصادية – المالية، بعد تأكيده على نحو صريح وواضح بأن استمرار القاء تبعات التوتر الاقليمي على لبنان سيزيد من حدّة الانهيار الداخلي بشكل يهدد كامل المؤسسات والاستحقاقات الدستورية.