انعكاسات الموقف السياسي الذي أعلنه زعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري يفترض أن تتبلور وتتضح في الأسابيع المقبلة، في الطائفة السنية وعلى الصعيد الوطني وفي الفضاء الإقليمي. فلبنان دخل مرحلة جديدة يلفها الغموض والمخاوف جراء قرار الحريري. التداعيات ستتوالى تباعاً وسيكون لها مفاعيل جوهرية إزاء المصير اللبناني المأزوم والذي تطرح حوله علامات استفهام كثيرة، ليس أقلها ما سبق للبابا فرنسيس أن عبر عنه بقوله إن لبنان في خطر حقيقي، وقد يتعرض للزوال.
في الانتظار لا بد من أن يسجل المراقب بضعة استنتاجات وخواطر قابلة للمتابعة.
كثر أسفوا لقرار تعليق العمل السياسي من قبل الحريري لتياره وكتلته النيابية وبعضهم استفظع أثره على المشهد السياسي اللبناني، من الطوائف كافة. لعل التعليقين الصادرين عن رئيس الحكومة السابق تمام سلام ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط يلخصان الأسباب الجوهرية، ويلقيان الضوء على تفاعلات هذا القرار في المستقبل القريب والمتوسط.
الأول رأى أنه «يعكس الخلل العميق في التوازنات السياسية والوطنية المفقودة». وهو الاستنتاج الناجم عن تجربة شخصية عايشها هو شخصياً مع تحالف «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» إبان رئاسته للحكومة بين 2014 و2016 ، ثم بعدها أثناء تولي الحريري رئاسة الحكومتين الأوليين بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، في إطار مراقبته لمعاناة زعيم «المستقبل» في إطار نادي رؤساء الحكومات السابقين، تليها مرحلة تعطيل تشكيل الحكومة الذي أجهضه تحالف الرئاسة مع الحزب سواء مع السفير مصطفى أديب أو مع غيره ممن جرى ترشيحهم للمهمة، ثم مع الحريري نفسه. أما تمنيه بأن يكون ما حصل «عبرة لمن يعتبرون أنفسهم منتصرين على أشلاء الوطن المنهار»، فإنه توصيف لائق لفقدان الأمل ، بعد التجربة. لم يكن عن عبث أن سلام سبق الحريري في العزوف عن خوض الانتخابات.
أما جنبلاط فكان تعليقه بليغاً حين قال «تيتّم الوطن اليوم والمختارة حزينة وحيدة»… إنه شعور دفين وعميق بأن الزعامة الدرزية التاريخية مهيضة الجناح بعد انكفاء القيادة السنية عن المعادلة السياسية في البلد. أي أنه شعور بعدم الأمان في الآتي من الأيام، خصوصاً مع توقع امتناع الرئيسين نجيب ميقاتي، الذي تشارك مع جنبلاط في الحزن، والرئيس فؤاد السنيورة عن الترشح للانتخابات النيابية في أيار المقبل. وإذا كان صحيحاً أن جنبلاط كان أول من تعاطى مع تعطيل تشكيل الحكومات بالدعوة إلى أن «يحكموا وحدهم»، قاصداً تحديداً تحالف عون مع «حزب الله» وإمعانهما بالانحياز إلى المحور الإيراني، فإن ما كان ينقص تلك الدعوة في حينها هو تحديد الأفق، والبرنامج السياسي لما بعد التسليم بأن يتولى هذا المحور زمام الأمور من دون مشاركة معارضيه له، لأنها تحولت إلى غطاء لتغيير وجه لبنان وهويته. وما يقلق جنبلاط على الأرجح، بقوله إن «المختارة وحيدة» هو أن الغياب السني عن المنازلة الانتخابية حتى لو أن الحريري أوحى بأنه موقت، سيطرح عليه وحده، تحدي رسم أسس الممانعة في وجه المشروع الإيراني، في ظل انقسام سياسي واسع وانشغال مسيحي بتفاصيل التنافس الانتخابي المعطوف على حسابات تتعلق باستحقاق الانتخابات الرئاسية مطلع الخريف المقبل، فضلاً عن عجز دولي وضعف عربي. وهي ظروف مختلفة عن تلك التي رافقت العام 2005. صحيح أن الحريري قال إن تعليق الدور في السلطة والنيابة يعني السياسة بمعناها التقليدي، وأبلغ الذين فوجئوا ممن التقاهم قبل بيانه، أن التعليق ليس انكفاءً أو إنهاءً لهذا العمل، بل الامتناع عن خوض الانتخابات، والتفرج على المسرح السياسي ثم اتخاذ القرار المناسب، إلا أن النتيجة هي أن الفريق الذي استطاع التحكم بالبلد إما بسبب الوضع الإقليمي وتخبط الموقف الأميركي تحديداً، أو بفعل فائض القوة الذي يمتلكه، سيعمل على إحكام قبضته على ناصية السلطة مستفيداً من الفراغ الذي تتركه الزعامة السنية، بعد أن حوّل «التيار الحر» الموقع المسيحي إلى منصة للنفوذ الإيراني.
لا ينفع توجيه محيط «حزب الله» التهمة إلى الخارج لتبرئة ساحته من أسباب ما أعلنه زعيم «المستقبل». فهذا السلوك يعني إنكار ما جلبه إلحاقه لبنان بكل تعقيداته وتنوعه بالسياسة الإيرانية، من دون أي اعتبار لشركائه في البلد.