لن تكون انتخابات 15 أيار عادية. فالمجلس النيابي المقبل سيرعى التسويات في المرحلة التأسيسية، ويشهد على انتقال لبنان من مرحلةٍ إلى أخرى. ولذلك، بديهي أن تتعرَّض زعامات للإقصاء أو الإضعاف في الانتخابات، فيما تدخل زعاماتٌ أخرى إلى دائرة القرار.
لم يتصوَّر أحدٌ أنّ انتخابات 2022 ستكون مناسبة لشطب زعامة السُنَّة «الوحيدة»، الرئيس سعد الحريري، من دائرة القرار. فتيار «المستقبل» هو الوحيد الذي يشكّل إطاراً جامعاً للسنَّة على امتداد الرقعة الجغرافية من الشمال إلى الجنوب، فيما القوى السنّية الأخرى كلّها محدودة الانتشار مناطقياً (بيروت، طرابلس، صيدا، البقاع الغربي…)
هذا يعني أنّ رئاسة الحكومة بعد الحريري لن تكون لها قدرة تمثيلية شاملة للسنّة، كما هي اليوم رئاسة الجمهورية تمثّل المسيحيين ورئاسة المجلس النيابي تمثّل الشيعة. وداخل مثلث أركان الحكم، ستكون رئاسة الحكومة هي الحلقة الأضعف، في انتظار أن ينهض «المستقبل» مجدداً أو يولد تيار سنّي بديل.
ولكن، ثمة زعامات أخرى قد تتعرَّض للإضعاف في الانتخابات، ومنها رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط. وهذا القلق عبَّر عنه جنبلاط نفسه قبل يومين، في الاحتفال الذي تعمَّد إقامته في حضن مؤسسة «العرفان» في السمقانية، بما للمؤسسة وللمكان من رمزية في واقع الطائفة الدرزية وتاريخها، وفي حضور السفير السعودي وليد البخاري.
بدا جنبلاط وكأنّه يستوعب نتائج الانتخابات مسبقاً. ولذلك، ذكَّر باغتيال كمال جنبلاط، وتحدّث عن «اغتيال جديد»، فأوحى أنّه على وشك مغادرة المسرح لمصلحة تيمور: «العمر أشرفَ على شتائِه. فَسِرْ يا تيمور ومِن حولِك أهلُ العرفان والحزب والوطنيين والعرب». ودعا «العمائم البيض» إلى أن «نردَّ الهجمة معاً كما فعلتم في جبل العرب، عبر صناديق الاقتراع، لمنع الاختراق والتطويع والتبعية».
هل هو فعلاً «خطاب الوداع» أطلقه جنبلاط أمام المؤسسة الدينية وممثّل المملكة العربية السعودية، بمعنى أنّه يقول: «اللهم اشهد إنني قد بلغت» فادعمونا؟ أم انّه يلوّح بالانسحاب ليضع الجميع أمام مسؤولياتهم، فيتداركوا المأزق قبل فوات الأوان في 15 أيار؟ أم إن جنبلاط يمهِّد فعلاً لدور جديدٍ سيكون مستعداً لتأديته في الفترة المقبلة؟
العالمون في شؤون الشوف يتحدثون عن دينامية انتخابية مكثفة للوزير السابق وئام وهّاب يمكن أن تكفل له الفوز بالمقعد الدرزي الثاني، فيحلّ محلّ النائب مروان حمادة. وما سهَّل المهمَّة على وهّاب هو خروج الحريري من اللعبة وضياع الصوت السنّي في إقليم الخروب وتشتيته بين المقاطعة واللوائح المتنافسة.
وفي المعلومات المتداولة في بعض الأوساط السنّية في الشوف، أنّ تسوية كانت قيد الإنجاز بين جنبلاط والأمين العام لـ»المستقبل» أحمد الحريري تقضي بتأمين كتلة ناخبة تصبّ في الصناديق لمصلحة حمادة، وتقدَّر بـ3 آلاف صوت، من قاعدة «المستقبل» الشعبية، ما يضمن له الفوز بالمقعد.
ولكن، وقبل وضع اللمسات الأخيرة على هذا الاتفاق، وصلت أخبارُه إلى الرئيس سعد الحريري، فطلب تجميد كل شيء وحرصَ على منع أي تدخُّل من جانب «المستقبل» وقواعدِه في العملية الانتخابية.
وعلى ذِمَّة هؤلاء، قال الحريري: «نعم، وهّاب هو خصمنا السياسي، ونحن نسلّم بذلك. لكن مروان طعنني عشرات المرّات أيضاً!». ودعا الحريري مناصريه إلى عدم التدخّل في انتخابات الإقليم من قريب أو بعيد.
إذاً، في المجلس النيابي المقبل، سيكون الشيعة هم الأقوى بالكتلة التي يديرها «الثنائي»، وقوامها 27 نائباً هم كامل نواب الطائفة. وستكون هناك خروقات واسعة في صفوف المسيحيين والسنّة والدروز لمصلحة الفريق الشيعي الذي سيملك الجزء الأكبر من القرار السياسي عشية الموعد المفترض لتأليف حكومة جديدة وإجراء انتخابات رئاسية وإبرام أي اتفاق وطني جديد.
في اختصار، سيكون المجلس المقبل أكثر ولاءً لمحور طهران- دمشق. وسيكون لهذا المحور ما يكفي من المؤيّدين لدى السنّة والمسيحيين والدروز، عدا عن الشيعة. وفي المرحلة المقبلة، ستكون لهذا الأمر أهميته.
فثمة مَن يعتقد أنّ هذه المرحلة ستشهد تسويات بين هذا المحور والقوى الفاعلة في الخليج العربي تنعكس تسويات في لبنان. لكن البعض لا يستبعد وجود تمايز داخل محور طهران- دمشق، وتمايز داخل محور قطر- السعودية – الإمارات، ما يعيد خلط كثير من الأوراق والتحالفات. وستكون لهذا التمايز تداعياته في المسائل الإقليمية والدولية وانعكاساته على الملف اللبناني.
فهل يجري تدبير الانتخابات لتخدم الاتجاه المنتظر للتوافقات الإقليمية؟ وفيما الساحة المسيحية مشرذمة أساساً، هل تتمّ إعادة السُنَّة إلى مرحلة ما قبل الزعامة الموحَّدة، عندما كانوا موزَّعي الولاءات داخلياً وخارجياً؟
وهل لهذه الغاية يتمُّ إضعاف جنبلاط، بحيث لا يكون القرار الدرزي حكراً عليه، بل أيضاً للموالين لدمشق؟ وهل هذه هي تركيبة المجلس المطلوبة للموافقة على أي رعاية إقليمية جديدة سيتمّ التفاهم عليها؟