Site icon IMLebanon

وليد جنبلاط.. عزوف سياسي في لحظة وطنية وإقليمية حرجة

 

في لحظة التسويات الكبرى للمنطقة، وفي مرحلة يرسو الوطن في قعر «جهنم» يقدّم وليد جنبلاط استقالته من رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي، وذلك بعد مرور خمس سنوات من ارتداء نجله تيمور عباءة السياسة والزعامة الجنبلاطية، الحدث جاء بعد 46 عاما من قيادة وليد جنبلاط العمل السياسي والحزبي.

السؤال هنا، ما الذي استشعره أبو تيمور تجاه المستقبل والتغيّرات مما جعله يأخذ هذا القرار التاريخي؟ وهل يرى في هذا القرار انه قد أتمّ تعبيد الطريق لنجله، وخصوصا أيضا ان الزمان أصبح مختلفا والمقاربات مختلفة، وذلك قبل أيام من هبوب رياح الإقليم على عكس ما يشتهيه…؟

رغم اني لا ادّعي بأني متخصص بالشؤون «الجنبلاطية»، إذا جاز التعبير، إنما نحاول في هذه العجالة أن نلجّ الى صفحات هذا القيادي اللبناني، وهو الذي منذ رحيل والده كمال جنبلاط في 16 آذار 1977, وحتى أيام قليلة مضت كان وليد جنبلاط «حاضرا في حروب الوطن ومصالحاته وتسوياته وانهياراته»، حيث مارس السياسة واتخذ المواقف على طريقته، و«فاجأ الجميع ببراعته وأسلوبه وشجاعته تلامس التهوّر أحيانا، واعتذاراته تقترب أحيانا من الانكسار، وفي الحالتين توفّر له جذوره العميقة فرصة النجاة من الغرق في النهر مهما تلاطمت أمواجه، سبّاح ماهر يروّض موجة وتقهره أخرى، يدرك نقاط قوته وأماكن ضعفه، يعرف الخطوط الحمر وتراوده في بعض المحطات رغبة في تخطّيها».

وفي المشهد السياسي الطويل لجنبلاط الغزير بالمعطيات والوقائع والأحداث على مدى نصف قرن إلّا نيّف نرى التالي:

لا شك ان المهام والأعمال والمواقف التي اتخذها زعيم المختارة خلال هذه الفترة الطويلة أتت وجرت في مراحل تاريخية ومحطات سياسية معظمها اتسمت بالمفصلية والحرجة والصعبة جدا.

وباختصار شديد جدا، وبالاستعانة بالذاكرة الشخصية وليس بالعودة الى أرشيف معلومات صحفي، نعرض أهم المراحل التي واجهت لبنان طوال هذه الفترة والتي تفرّد فيها جنبلاط وتمايز عن نظرائه، حيث ولجها بميزة لافتة على المستوى الشخصي والنفسي، ونقصد برحيل والده كمال جنبلاط اغتيالا وبشكل مفاجئ في آذار 1977.

وهنا بكل تجرّد وبعيدا عن الدخول في نقاشات حول هذه النقطة بالتحديد، التقط جنبلاط الإشارة وحسم بسرعة غير عادية وبحكمة وتماسك، واستلم القيادة والأمانة وانطلق في صراط العمل السياسي بكل رؤيوية وحزم تجاه المواقع والصعاب والمعارك والحروب العديدة التي واجهت لبنان.

وهنا، وكرأي شخصي بحت، من المستحسن أن نشير الى انه مع موت كمال جنبلاط مات أيضا جوهر ومقاصد العمل الحزبي الحقيقي في لبنان، وتبع ذلك ظهور وبروز ووقوع أحداث هائلة على الساحة الاقليمية وهي التي انعكست على لبنان وعلى كافة العمل السياسي فيه، ومعظمها تجسّدت نفوذا وتأثيرا على الأطراف الداخلية، وهذا كله بدوره انعكس فيما بعد على هوية ودور وثقافة هذا البلد «الصغير والجميل»، وهو الذي وصفه هنري كيسنجر، بأنه «اكسسوار المنطقة».

وهنا، سريعا نذكر التالي: إضافة الى الحروب الداخلية اللبنانية العديدة («حروب الآخرين على أرضنا») هناك حروب ومسائل إقليمية عديدة انعكست بدورها على الدينامية السياسية في لبنان، ونورد باختصار شديد التالي:

اجتياح إسرائيل الى لبنان عام ١٩٨٢، وخروج العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية الوجود السوري (العسكري والنفوذ القوي حتى عام 2005)، اتفاق الطائف 1990, نفوذ إيران المتشعب والذي تجلّت ذروته في السنوات القليلة الماضية، الأزمة السورية 2011.

وعلى مستوى الداخل، نورد سريعا التالي: حرب الجبل، حربي التحرير والإلغاء عند المسيحيين، أحداث الجبل وبيروت في 7 أيار 2008, اتفاق الدوحة، ريادة جنبلاط لثورة الأرز 14 آذار بعد الانسحاب السوري وانطلاق الدور الأمني لحزب الله («الناظم الأمني في البلد»). وأخيرا سلوكيات ومواقف وسياسات جبران باسيل والتعطيل والمخصصات الكبيرة طوال عهد عون، وآخرها كان انسحاب سعد الحريري من المشهد السياسي وهو أحد حلفاء جنبلاط بعد نبيه بري.

انها عقود مليئة وغزيرة بوقائع وأحداث ومحطات تجعل الساسة وعلماء الدستور والقانون يدخلون في دوخة ومطبات، لا يخرج منها ناجيا أو رابحا إلّا لمن كان عنده عمر أو حظ أو إمكانية ومهارات غير عادية، وهنا بالتحديد يصف أحدهم وليد جنبلاط بانه طوال هذه الفترة كان الرجل كالذي يسير ممتطيا خيطا رفيعا جدا فوق نهر تغطيه العواصف والأعاصير، وبكل تجرّد ودون أي ممالقة.

وسط هذا المناخ، وحسب ما تمليه الأعراف والقوانين والدستور والواقعية السياسية وغير ذلك من الأمور، يرى معظم المراقبون ان جنبلاط حافظ على أربع:

١- سلامته الشخصية.

٢- زعامة المختارة على المستوى الوطني والسياسي وموقع طائفة الموحدين الدروز.

٣- تمايز الحزب التقدمي في مختلف الحقول والمسائل الوطنية.

٤- تفنن جنبلاط في مسألة التحالف مع الطوائف الأخرى ومختلف الأطراف، فنرى التالي:

١- مع الطائفة السنية، حافظ على علاقة استراتيجية معهم من خلال الحريري (الأب والابن، حتى عزوف سعد في 24 يناير 2022).

٢- مع الثنائي الشيعي، أيضا صان وعزّز وحافظ على علاقته مع نبيه بري، واعتمد مبدأ بدعة تنظيم وإدارة الخلاف مع حزب الله وخصوصا بعد حرب الجبل، وذلك رغم التحديات والصعوبات.

3- مع المسيحيين، نجح بشكل كبير وجعل المشاكل صفرا، وتجسّدت بانطلاق مصالحة الجبل مع البطريرك صفير عام ٢٠٠١.

وتبع ذلك تحالفات وتنسيق مدروس ودقيق مع القوات خصوصا والمسيحيين عموما، حفظ من خلالها الاستقرار في الجبل.

إذن جنبلاط بهذه الاستراتيجية وطوال هذه المدة من تاريخ لبنان ساهم بتأمين الحد الأدنى من الحرص الوطني على السلم الأهلي وعمل المؤسسات في هذا البلد، وأيضا على مكانة والحصة الواقعية لطائفة الموحدين الدروز بغض النظر عن تفاصيل حيوية وهامة داخل البيت الدرزي، وهي التي حاول جنبلاط أن يتعامل معها بذكاء وواقعية وصراحة وشفافية.

هذا المشهد العام لآلية وإدارة جنبلاط السياسية على مدى نصف قرن تقريبا، الى ان ما كشفته ثورة ١٧ تشرين 2019 حيث هي التي وضعت الطبقة السياسية في مأزق أخلاقي وسياسي كبير، ناهيك ان عهد عون قد أوصل البلد الى قعر جهنم، وتجسّد ذلك في التعطيل والفراغ وتآكل وانهيار المؤسسات وانهيار العملة الوطنية وغير ذلك من أزمات تضرب بمستقبل وهوية وكيان ووجود هذا البلد، إضافة الى ان هذا المشهد بإجماله صنع انسدادا صلبا في الأفق السياسي.

الآن، ونحن في أيار 2023, وليد جنبلاط دخل العزوف السياسي (بشكل رسمي)، ويستلم مكانه نجله تيمور؛ والبلد على عتبة تاريخية هائلة…

السؤال هنا من جزئين:

١- هل ينشر أبو تيمور يوما ما مذكراته مليئة بخفايا وأسرار عسى يستفيد منها كل مثقف ومتابع وسياسي ومؤرخ في هذا البلد؟!

٢- بماذا يوصي تيمور؟ وما هي خارطة الطريق التي يقترحها عليه؟..

نختم، قد يكون وليد جنبلاط قد فاجأ أقرب المقرّبين بشأن عزوفه السياسي، لكن نسأل: هل رذاذ الغيوم الهائلة في سماء الشرق الأوسط وخصوصا بعد إعلان الاتفاق السعودي – الإيراني وخفايا ملف الانتخابات الرئاسية عجّلت في توقيت قرار زعيم المختارة، وهو قرار قد يكون مطية نجاة له من احراجات مع حلفاء ما؟