عندما ستسرد كتب التاريخ سيرة العلاقة اللبنانية السورية في عهد عائلة الأسد، سوف تحتل شهادة وليد جنبلاط أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان فصلاً مهماً من فصول هذه الكتب.
وليد جنبلاط هو ابن أول ضحية من ضحايا هذه العلاقة، التي شاء أن يصفها أمام المحكمة بانها «علاقة خاصة كونها أمراً تحكمه الجغرافيا السياسية». ولهذا السبب، فقد جاء تعبيره عن الاضطرار إلى المحافظة على العلاقة مع النظام السوري، رغم علمه بهوية من قتلوا والده، بمثابة اعتذار شخصي من كمال جنبلاط، واعتذار أكثر أهمية من كثيرين من اللبنانيين، الذين يتذكرون أين كان يقف وليد جنبلاط عندما كانت القبضة السورية قد بدأت الإمساك بالعنق اللبناني، منذ العام 1977 وصولاً الى محطات الحرب اللاحقة، وأكثرها دموية حرب الجبل، ووقوف جنبلاط وحلفائه آنذاك ضد السلطات اللبنانية وجيشها، بحجة حماية «المشروع الوطني»، كما كان يطلق عليه.
وكأني بجنبلاط شاء أن يرد على هذه التساؤلات، فشرح أسباب موقفه آنذاك إلى جانب نظام دمشق، بالقول إنه كان «في الصف الواحد مع النظام السوري لأن لبنان كان يتعرض لمؤامرة داخلية واحتلال وغزوات إسرائيلية»… «كنا والنظام السوري في خندق سياسي واحد لأننا كنا نريد تجنيب لبنان مخاطر. كانت هناك فئات لها مشروع وكان هناك الخطر المركزي الإسرائيلي».
لكن هذا التبرير لا يعفي جنبلاط، ومن كانوا آنذاك في ذلك «الخندق»، من الإجابة على أسئلة تتعلق بدورهم في تمتين نفوذ سورية والسماح لها بالاستفراد بالقرار اللبناني. ولم يعد من يجهل اليوم الدور الذي لعبته أجهزة الاستخبارات السورية، منذ بدايات الحرب اللبنانية، في توسيع مساحة الخلافات بين اللبنانيين وشق صفوفهم وأحزابهم وطوائفهم، من خلال المجازر المتنقلة التي كانت ترتكبها عصابات تابعة لتلك الأجهزة تحت أسماء وهويات مختلفة، بهدف واحد، هو الإيحاء بعجز اللبنانيين عن حكم أنفسهم. ولا بد من السؤال هنا عن الدور الرئيسي الذي لعبه حلفاء سورية ووكلاء تعزيز نفوذها في لبنان في تلك المرحلة في إنجاح المشروع السوري والسماح له بالهيمنة على لبنان لربع قرن من الزمن.
يقودنا هذا إلى كلمة صريحة، وهي أن تاريخ ارتكابات النظام السوري في لبنان لا يبدأ من التمديد للرئيس اميل لحود ولا حتى من مرحلة الاغتيالات التي تلته. كما أن هذا التاريخ لا يبدأ من عهد بشار الأسد، الذي يقول وليد جنبلاط عنه إنه وجده «مختلفاً» عن حافظ الأسد… يقول جنبلاط إنه كانت تربطه علاقات وثيقة بعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، ولكن… عند أي نظام كان يعمل هذان الرجلان؟ أليس هو النظام نفسه الذي يقول جنبلاط إنه بقيادة حزب البعث «الذي يسمينا قطراً، أي ليس لنا وجود بالمعنى السياسي، لذا واجهنا عقيدة سياسية متينة لا تعترف بالغير».
شهادة وليد جنبلاط أمام المحكمة الدولية كانت قراءة سياسية لمرحلة واحدة من مراحل العلاقة اللبنانية السورية. مرحلة مأسوية بلا شك، لكنها ليست منفصلة عمّا سبقها ومهّد لها. غير أن من عادات السياسيين في لبنان، وجنبلاط واحد منهم، أنهم يحفظون من صفحات التاريخ ما يحلو لهم ويفيدهم ويرمون الصفحات الأخرى في سلة المهملات، على أمل نسيانها.
كان جنبلاط أمام المحكمة فصيحاً في اتهاماته لنظام بشار الأسد. لكنه تجاهل حقيقة هوية المتهمين في الجريمة التي جاء شاهداً عليها. لذلك وجد وكلاء الدفاع عن المتهمين أنهم في وضع لا يحسدون عليه، فالرجل الذي يهاجمه وليد جنبلاط (أي بشار الأسد) ليس مطلوباً أمام هذه المحكمة ولا متهماً، ولا يوجد بالتالي محامون موكلون بالدفاع عنه. أما الذين يتهمهم الادعاء بارتكاب جريمة الاغتيال، والحزب الذي يعملون لحسابه، فقد نسي جنبلاط أي ذكر لهم… ربما لحماية «المشروع الوطني» الذي دفعه إلى «الخندق الواحد» مع قتلة والده.