ما دامت العنصريّة تفشّ، فلنتحدّ إذن عن العنصريّة الفكريّة التي وضعت «كلّ الفكر العربي والإسلامي مريض»، «سلامة قلبك وليد بيك من المرض، لا يفاجئنا موقفك ولا ما صرّحت به قبل يومين تعليقاً على الحادثة الشنيعة التي ذبح فيها كاهن على مذبح وهو يرفع الصلاة وهو في السادسة والتسعين من عمره !!
قال وليد جنبلاط: «كم يبدو العقل العربي والإسلامي مريضاً، فهو لفظ كل أشكال التطور وأصر على التخلف.. كم يبدو العقل العربي والإسلامي مريضاً، فهو رفض كل أشكال الإنفتاح وتمسك بالإنغلاق.. كم يبدو العقل العربي والإسلامي مريضاً، فهو عبر التاريخ أحرق الكتب والمكتبات ونصب مقابلها التماثيل تخليداً للزعماء والطغاة»!! كم يبدو العقل العربي والإسلامي مريضاً، منذ فقدان مكتبة إبن حزم الأندلسي والغزالي وإبن المقفع وأبي نصير سابور وإحراق كتب إبن رشد.
كم يبدو العقل العربي والإسلامي مريضاً، فهو يحتقر الحبر والقلم ويفضّل الدم والرصاص. هو يمجد الطغاة ويمقت الثوار والأحرار»!!
كأنّنا الوحيدون في العالم منذ أكثر من ألف سنة الذين أحرقوا الكتب، في صراع بين الفقهاء والفلسفة والصوفية، و»الحسد» و»الغيرة» أحياناً… والكتاب كان دائماً ضحية الإرهاب الفكري، وهو الفكر الذي تمثله الطبقة الحاكمة، ولمعالي السيد جنبلاط لمحة عن تاريخ الكتاب بعيداً عن العقل العربي والإسلامي المريض، لذا وليد، تابع الآتي:
عُومل الكُتَّابُ في روما بعنف شديد، فقد كان يُحكم بالإعدام أو بالنفي على كل كاتب يتجرأ على السخرية من ممثلي السلطة، أو على التشكيك بالمبادئ الأساسية الاجتماعية ـ الأخلاقية التي تقوم عليها الدولة الرومانية. وكان من المستحيل في عهد الإمبراطور التوقيع باسم صريح على الأعمال التي تتضمن الهجاء السياسي، خصوصاً إذا كان العمل يتعرض للإمبراطور أو إلى أفراد أسرته، إذ ان مجرد التلميح للسلطة الإمبراطورية كان يقود صاحبه إلى الموت، أو النفي في أحسن حال، ومن الطبيعي أن يحدث هذا في دولة تتمركز فيها السلطة كلها في يد شخص واحد هو الإمبراطور، ويقوم فيها الانتهازيون والمهرجون بالتأكيد على عصمة الإمبراطور من الخطأ، وعلى إقناعه بأنه لم يكن من الأشخاص… بل من الأرباب والآلهة…
تيتوس لابينوس الخطيب، كان لابينوس من أنصار بومبي، ولم يكن يخفي اتجاهه السياسي في خطبه وكتاباته، فقد كان المسكين غير مدرك أن عهد الجمهورية قد انقضى، حيث كان الخطباء يعبّرون بحرية عن أفكارهم السياسية، لذلك حكم عليه مجلس الشيوخ بحرق كتبه بشكل علني في روما، ولما غضب من هذا الحكم لجأ إلى الانتحار.
سينكا ـ الكاتب، تنبأ في كتاباته عن الظلم الذي وقع على الكُتَّاب، وكتب ذلك بشيء من التشفي، وتنبأ بأنه سيتعرض هو نفسه إلى نفس مصير لابينوس، وهو ما حصل له فعلاً..!
كاسيوس سيفر ـ الخطيب، أحرقت كتبه، وحكم عليه بالنفي في أيام حكم الإمبراطور أوغسطس، مع أنه كان محباً للأدب، وراغباً بمصاحبة الكُتَّاب ومناقشتهم، ولكنه وبمعية مستشاريه والمقربين منه والمنتفعين تغير.
محاربة (جير ولاموسافونا رولا) للكتب والفن… من فرنسا (1452 ـ 1499) فقد كان يعتبر أن الكتب مسؤولة عن فساد العالم، وكان يدعو في خطبه النارية إلى العودة إلى أصول المسيحية، ويرفض كل ما أوصل الكنيسة والمجتمع إلى تلك الحال الأخلاقية البائسة في ذلك الوقت. (من وجهة نظره) لذلك كان دائماً ينتقد الكتب التي في رأيه أنها سيئة وغير أخلاقية، كما ينتقد أعمال الفنانين مثل اللوحات التي تبرز الجسم العاري للإنسان، والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى، لذلك اندفع أتباعه المتعصبون إلى بيوت الأغنياء في فرنسا ليجمعوا اللوحات والكتب، وليضعوها في الساحة الرئيسية للمدينة، حيث كانوا يجمعون أكوام الحطب ويلقون فوق ألسنة النيران وسط صراخ الحشود كتب أوفيدا وبوكاشيو وغيرهم من الكتاب الذين يعتقدون أنهم غير مهذبين، وقد تكررت هذه العملية مراراً، وأطلقوا عليها اسم (حرق الأباطيل).
في تاريخنا العربي والإسلامي (المريض) ففي موضوع الفلسفة ظهرت عدة مدارس وأفكار، فهناك فريق أيد الفلسفة ودافع عنها، وصنف الكتب في شرحها والدعوة إليها، وهناك فريق آخر حارب الفلسفة والمنطق، وسفَّه كلَّ من تعلمها أو علمها أو عمل بها. من الذين ألفوا في محاربة الفلسفة: الشهرزوري والغزالي والجويني والباقلاني الذي كتب خمسين ألف ورقة في الرد على أهل الفلسفة.
أما الشهرزوري فقد قال عندما سئل عن الفلسفة والمنطق: (إنَّ الفلسفة أسُّ السَّفَه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشرع، وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه أو تعلمه مما أباحه الشرع، وأما استعمال المصطلحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية، فمن المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، فواجب على السلطان أن يدفع شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويعاقبهم، وهؤلاء إن لم يتوبوا… إما يقتلوا، أو يعزلوا في بيوتهم، أو يسجنوا..!
المسيحيون أيضاَ أحرقوا كتب بعضهم البعض، في الديانة المسيحية طوائف مختلفة، مثل باقي الأديان، وتبارت هذه الطوائف في إلغاء إحداها للأخرى…