IMLebanon

قانون السير في لبنان والعجز عن معالجة الفوضى!

من ثقافة التشريع وأخلاقياته أن يتوقف المشرِّع عند خصائص الأوضاع الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعند تفاوت مستويات نمو وعي الجماعات لمخاطر هذه الأوضاع، خصوصاً إذا تكيفت مع غياب التشريع عنها على امتداد عقود. وتهدف نوايا المشرع إلى توجيه خيارات وسلوكيات الناس لتحديدها. وتختلف هذه النوايا عادة باختلاف ميول المــشرِّع إلى المحافظة عليها او الى تغيـــــيرها. ولهذا يُفترض به أن يُحيط بخصائصها في البلاد، وباختلاف انعكاساتها على الجماعات.

وتندرج هذه الإحاطة التكاملية بالأوضاع في اهتمامات علم الاجتماع القانوني، الذي يسند ابحاثه إلى علوم وفروع بحثية متخصصة بكل واحد من تلك الأوضاع، مستفيداً مما يتُوفر له من المعطيات اللازمة التي يجب اخذها بالاعتبار، وتقدير حدود تأثيرها المفترض في صوغ القانون. وتأتي في طليعة هذه الأوضاع:

ـ الوضع السياسي، حيث يجب أن يتوقف المشرِّع لقانون السير ملياً امام خصائص هيكلية السلطة الحكومية والأهلية، ليُحيط بآليات تجدُّدها في الانتخابات وأشكال ارتباط أطراف السلطة بولاءات الأفراد والجماعات، وبحدود التعامل الزبائني في علاقاتهم السياسية التي تُشجع غالبا على تجاوز القوانين والتملص من العقوبات بوسائل وحيل، يتقن الشطّار ابتداعها وشرعنتها. وتُصبح هذه التعاملات الزبائنية هي السائدة والمحدّدة لاندماج الفرد في جماعته الضيقة، وزعامتها الساهرة على حمايته من القانون. كما يجب ان تقترن ثقافة المشرِّع بإحاطته خاصة بالقدرات البشرية والتقنية المُتاحة للنظام القضائي، وبمدى تأثر المحاكم والشرطة المعنية بتطبيق قانون السير بتسلط السياسيين وإغراءات المخالفين الشطّار.

ـ الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث يجب ان يتوقف المُشرع امام مستويات نمو الإنتاج وتفاوتات شرائح الدخل الفردي وتوزع الفقر تحت كل من الخطين الأدنى والأعلى بين المناطق في لبنان، حيث لاحظ تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعامي 2008 ـ 2009، مثلاً، أن «نسبة المُبتلين بالفقر تصل إلى 28,5 في المئة منهم 20 في المئة بين الخطين، و8,5 في المئة تحت خط الفقر الأدنى (بكلفة عيش ادنى لا تزيد يوميا عن دولارين ونصف). وتختلف مستويات هذا الفقر الأدنى او المُدقع بين المناطق لتصل نسبة الإبتلاء به في محافظة الشمال إلى ضعف ما هي عليه في لبنان أي 17,5 في المئة». ولا يجب ان يغيب عن ذهن المُشرّع انعكاس هذا المستوى من الفقر على الذهنية والسلوك اللذين يميلان في الأرياف وفي ضواحي الفقر إلى الولاءات الاغاثية، والتطرف والتحول عن الدولة، والتهاون بالأهداف النبيلة لقانون السير، ومنه مواد كثيرة تفرض مستوى من الأخلاق المدنية التي تُقتبس في تشريعاتنا عن الأنظمة المتطورة في العالم، لتطبّق دونما تدرُّج على جيلين واكثر سادت في ذهنيتهم معايير التشاطر في مخالفة الكياسة وخاصة على الطرق.

ـ الوضع التربوي ـ الثقافي الذي يُعرّف المشرِّع على تفاوتات الحس والوعي بضرورة القانون في تطور المجتمع وحول أنماط الثقافات والمعتقدات والعادات السائدة في المناطق والجماعات (حضرية وريفية ومدنية وعشائرية..).

إن صوغ القوانين يجعل منها ضوابط أساسية تحصِّن النظام العام. ولذلك يقترن بتحديد العقوبات على مخالفيها المتنورين كما المغفلين. ويُصنَّف قانون السير كقانون جزائي (Droit pénal). ويُصنّف المشرع وفق مرجعيته في واحدة من النظريات الثلاث التالية:

1ـ النظرية الوضعية (Théorie positiviste) التي تعتبر الدولة مرجعية وحيدة للقانون لا تتأثر من خارج أجهزتها بأي من الأفكار الفلسفية أو الدينية، وأن القانون يقوم على مجموعة قواعد تضعها الدولة تضمن تطبيقها بفعل عقوبات رادعة. ويغلب استهوان الحكومات لتبني هذه النظرية في صوغ القوانين لاعتمادها على الجهازين الأمني والقضائي.

2 ـ نظرية القانون الطبيعي (Droit naturel) التي تعارض النظرية الوضعية وتقوم على اعتبار ألحق في فلسفة الأنوار (حركة فلسفية سادت في اوروبا في القرن الثامن عشر)، أي على أساس أخلاقي وفلسفي يُعتمد في الحكم على القيمة الإنسانية للقوانين .

3 ـ أما النظرية الأحدث، فيمكن إسنادها إلى علم الاجتماع لأنها تعرف القانون باعتباره صيغة تتوسط بين الأفراد، لتعريفهم على حدود كل منهم في العلاقات بينهم، وتعتمد لتحكيم التوافق بينهم على حدود رغباتهم وإراداتهم .

وبالعودة إلى قانون السير الرقم 243، الصادر عن الحكومة اللبنانية العام 2012 في 420 مادة، تبرز المغالاة في شمولية تغطيته لعشرات من ابرز مخالفات القيادة المُعَرِّضة لنظام أمن وسلامة الناس، التي تودي بحياة حوالي الف ضحية سنويا من غير الجرحى. ولكن يبرز في صوغ مواده المعالجة لهذه المأساة الكثير من ميل الدولة الى العنف وقنص المال، ما يدفع الى المزيد من استعدائها بعد تغافل المشرع عما عاشه اكثر من جيلين من اللبنانيين على امتداد حوالي نصف قرن مضى، من تدهور أخلاق القيادة، لا سيما لدى الشباب، ومن تراجع أداء وهيبة أجهزة القضاء والشرطة بفعل توسع نهج الفساد والزبائنية في حماية مخالفي القانون من العقوبات. وهذا ما ادى الى ارتفاع في معدلات وفيات الطرق، لم يُسجّل في الكثير من البلدان المجاورة والبعيدة. وهو ارتفاع أغرى أجهزة التشريع البرلمانية والشرطية بالقفز الانفعالي فوق مسؤولياتها المزمنة عن التواطؤ، بشكل او بآخر، مع معايير الشطارة في السوق، وعن تطبيع فقدان الحس المدني والذوق في تبادل إشارات السلامة والاحترام.

وقد ذهب المشرع في التعويض عن نقص الفطنة والحنكة في الصوغ الأمني ـ المالي للقانون مُبهراً كل فئات اللبنانيين، بما أنزلته عليهم زعاماتهم عبر اللجان البرلمانية والوزارة من قانون لا يقوم على أي نظرية. يُفاجئهم باعتباره أن الدولة، التي خبروها كثيرا، قادرة على ان تتحول اليوم الى مرجعية وحيدة للتشريع وبسلطة مطلقة، وفق ما أشرنا إليه في النظرية الوضعية، وان سلطتها المطلقة التي يُبشر بها القانون 243/2012، لا تتأثر بأي من الأفكار الفلسفية أو الدينية وهي في الواقع ليست الا كذلك. كما أنها لا تتأثر بنظرية القانون الطبيعي التي تقوم على أساس أخلاقي فلسفي يُستند إليه في الحكم على القيمة الإنسانية للقوانين. ولذلك ذهب المُشرِّع في تقريره للعقوبات المالية على الكثير من المخالفات إلى فرض مبالغ يعجز عن دفعها أي سائق من ذوي الدخل المحدود، أجبره غياب نظام النقل العام على شراء سيارة لتسهيل تنقله وعياله، كما يعجز عن دفعها آلاف السائقين العموميين وشبه العموميين ممن تغص بمنافساتهم طرق العاصمة. وقد تعودوا على اعتماد الشطارة في «تصيّد» الركاب لتحصيل الكلفة اليومية لمحروقاتهم وخبز عيالهم. فأي مرجع يُغيثهم خارج النهج الزبائني للزعامات التي تُبَادِلُ ولاءَهم لها بحمايتهم من مستحقات القانون والدولة؟

إن النوايا المدنية والانسانية الظاهرة في أهداف هذا القانون لن تؤخر ظهور صعوبات تعميمه في الأشهر القادمة، وهي صعوبات كانت الحكمة والحنكة تقضيان بأن يُبرمج تدريج تنفيذ مواده على الشكل التالي:

1ـ تخفيض أكلاف المخالفات التي تزيد عن 100 ألف ليرة إلى النصف.

2 ـ قَصر تنفيذه في الأشهر الستة الأولى على العاصمة تليها عواصم المحافظات، والفرق كبير بين نزق السلطة المطلقة الضاربة، وبين فطنة ودهاء السلطة التي تفهم مسؤولياتها .

3 ـ التمييز في أكلاف مخالفات السرعة بين السائقين وتخفيض مخالفات السرعة لذوي الأعمار التي تزيد عن 50 سنة إلى النصف، لأنهم الأقل اهتماماً بالسرعة إجمالاً.

4 ـ التأخير في فرض بعض المخالفات التي يصعب على الناس اعتبارها مصادر اخطار مهمة، وذلك عملا بالقول المأثور: اذا اردت ان تُطاع فاطلب المستطاع. ومن هذه المخالفات البسيطة: فرض وضع الزنار على صدور الجالسين على المقاعد الخلفية ووضع الكوع خارج زجاج الأبواب، وفرض منع اكل الساندويشات لا سيما ان الكثير من الناس يقضون اوقات طعامهم في السيارة.

5 ـ السماح باللجوء للضوء العالي في الطرق الجبلية المتقاربة الأكواع للاستزادة من كشف حدود الوصلات بينها، استباقا ضروريا لمفاجآت التصادم.