Site icon IMLebanon

سيري فعين الله ترعاك

تصدَّر نشرات الأخبار مساء الأربعاء الماضي حدثان من يوميات لبنان التاريخية. الأول، جلسة الحوار المعروف بالحوار الوطني، وهو سلسلة من اللقاءات تفرّعت عما كان معروفاَ بـ “حوار بعبدا” واصبح معروفاً في ما بعد بحوار ” بلّو واشرب ميتو”. الحدث الوطني الثاني كان المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الاقتصاد، واعلن فيه التوصل إلى اتفاق على زيادة ربطة الخبز (بما فيها البلاستيك) خمسين غراماً اضافياً. وفي هذه المناسبة تقدم الوزير بالشكر والامتنان إلى عموم الخبّازين والفرانين وصوامع القمح، وطبعاً الشعب اللبناني.

خلت نشرة الأخبار السارة من تطورات القمامة وعبارات الامتنان لأي كان. ونسي الناس، مع الوقت ومرور الزمان، اخبار الكهرباء والماء وزحمة السير في كراتشي، أو بالأحرى في لاغوس، حيث كتب مراسل “النيويورك تايمس” مرة: “عندما يكون السير سيئاً في هذه المدينة تكون الأمور جيدة” لأن البطء يحول دون الفلتان والثيران والسير في لبنان.

يصعب علينا، نحن الذين نشأنا على تسميات من نوع “بلاد الأرز” أو بلد “هالكم ارزة العاجقين الكون”، ومصدِّري إليسار وهنيبعل وقرطاج وأوروبا وأرض قدموس، يصعب علينا أن نُدعى في “لبنان الكبير” إلى مؤتمرات صحافية عنوانها خمسون غراماً من العجين، أو الجلسة الرقم 50 من الجعجعة بلا طحين. لقد خُدعنا كما خُدعت حسناء احمد شوقي التي قال فيها: خدعوها بقولهم حسناء / والغواني يغرهنَّ الثناء!

وقد اراد البعلبكي خليل مطران أن ينافس شوقي على إمارة الأقطار، لكنه عاد فاكتفى بلقب “شاعر القطرين”، تاركاً الإمارة الكبرى للأخطل الصغير، قبل أن يتحول معاني الإمارات إلى ما هو اليوم، شادي المولوي وفضل شاكر، وكلاهما مدعى عليه، مجهول الإقامة، بموجب مذكرة تحر، كما تقول لغة المخافر في زمن البحث عن المطامر. اقتضاء السجع.

في زمن مضى – وعذراً عن هذه العودات والاستعادات – كانت المسألة في هذا البلد، “الرابطة القلمية” ومن يرأسها، وليس ربطة الخبز، ومن يرفدها بخمسين غراماً. الحقيقة أن وزير الاقتصاد بحث عن أي نبأ ينعش به كآبتنا ولم يشأ أن يكدرنا بمعدلات البطالة وانعدام النمو وهبوط التجارة ومؤشرات البؤس، فاكتفى بهذا العنوان السريع عن “حال الاتحاد”: خمسون غراماً طحيناً، والباقي جعجعة.

كان في لبنان دوماً شيء اسمه السياسة، وشيء اسمه لبنان. كل منهما، والحمد لله، يسير في اتجاه مغاير. السياسة تجر البلد نحو التخلف والاندثار والظلام، والناس تدفعه، على رغم كل شيء، نحو البقاء على قائمة الاستمرار. فيما كان “الحوار الوطني” يبحث في التعيينات، والوطن يبتهج ابتهاج النشوة الكبرى بأن وزراء “التيار” لن يقاطعوا جلسة السرايا، بعد مقاطعة القمتين العربية والإسلامية – فيما، أو بينما، كان التاريخ يدوِّن هذه المآثر، مضافاً إليها 50 غراماً عجيناً، كان لبنان الآخر يحتفل بمرور 150 عاماً من العلم والفكر والتنوير، في جامعة بيروت الاميركية.

قبلها كانت الجامعة اليسوعية قد احتفلت ايضاً بمرور كل هذه العقود، وقبلهما مرت القرون، على كلية الحقوق الرومانية فوق هذه البقعة الممتدة من الطرف الشرقي الأغر إلى الطرف الغربي الأغر. بينهما ساحة الشهداء، التي ستصبح ساحة الأسلاك الشائكة، ثم ساحة التخلّي.

من ناحية، جامعة الكثلكة والتزام الموروث، ومن ناحية جامعة البروتستانت، ورثة مارتن لوثر، الذي تحتفل المانيا بمئويته الخامسة خلال أيام. بدأت الأميركية تحت اسم الكلية السورية البروتستانتية، وسوف تربي جيلاً من القوميين العرب والسوريين، بل سوف يقول جورج انطونيوس، كبير مؤرخي القومية، إنها ولدت على ايدي “المبشرين البروتستانت”.

وفي أي حال، فقد تخرج منها أربعة من مؤرخي العرب المعاصرين: فيليب حتي، والبرت حوراني، ونقولا زيادة، وجرجي زيدان. ومن ليبراليتها، تخرج يمين شارل مالك، ويسار جورج حبش، ووسط

غسان تويني. الرئيس السوداني اسماعيل الأزهري والرئيس السوري ناظم القدسي، والرئيس الأفغاني محمد أشرف غني. سياسيون من البحرين ومن الكويت ومن فلسطين.

ومن تعددها الفكري تخرج شبلي الشميل، الذي حمل مع رفاقه إلى مصر نظريات داروين وخاضوا المجادلات في صحفها حول أصول النشوء والترقي. اتجهت الاميركية صوب العروبة فيما توجهت غريمتها، اليسوعية، نحو اللبنانية المتأثرة بالبلاغة العربية، ولكن بالعمق الثقافي الفرنسي. “الاستقلال” كان بالنسبة إلى حَرَم الاميركية التوزع حول القوميتين المطروحتين آنذاك، العربية و “عروتها الوثقى”، الشعار المأخوذ من القرآن، والقومية السورية التي بشر بها انطون سعادة تلامذته في الأميركية، وكان أول من التحق به غسان تويني ومحمد بعلبكي وهشام شرابي، حالمين بوحدة على جميع الهلال الخصيب. وتأخر سعيد تقي الدين قليلاً في الانضمام. فقد بدأ شغفه بالوحدة في “العروة الوثقى” التي كان أبرز خطبائها، قبل أن تبهره شخصية سعادة وتعاليمه.

ماذا كانت حال لبنان في هذا التنافس بين عالمين لم يتوقف صراعهما الثقافي والسياسي منذ أن عبر البريطانيون ما يسمونه “القتال الانكليزي” ويسميه الفرنسيون “المانش”. واحد يعتبر القناة قناته، وآخر يعتبرها “كمّه”. اعلى اليد واسفل الساعد. تدلل لبنان بين حضارتين تتوسم فيه كل منهما، أن يكون بريدها إلى الشرق. كانت ساحة صراعهما الأخرى مصر في تلك الحقبة، أي النصف الأول من القرن العشرين، لكن هذا البلد، على صغره، كان مروحة لا تهدأ على البحر، ينشىء المدارس والصحف، حتى أن بيروت كانت تقرأ بالفرنسية صحيفة المساء، إضافة إلى صحف الصباح، وكأنها جزء من إحدى الضفتين على السين.

ولا تنسَ حلبة الصراع الأخرى، السينما، التي كانت مجلتها تصدر كل خميس بالفرنسية. لكنها، شيئاً فشيئاً، أخذت تمتلىء بافلام هوليوود. وتراجعت ايضاً افلام جان غابان وايدي كونستانتين إلى الدور الصغيرة في اطراف ساحة الدباس، لكي تطغى فوق مداخل الدور الكبرى ملصقات جون وين وغريغوري بك وكيم نوفاك في ارجوحة وليم هولدن: هاي.

طبعاً منذ ان انتصف القرن الماضي تحولت مظاهر الصراع تماماً. وقعت كارثة فلسطين، واستقلت الدول العربية، وحملت مصر الناصرية على الغرب بكل لغاته وثقافاته، وطغى الترانزيستور على الأصوات والاصداء الأخرى. وفيما انعزلت اليسوعية إلى زاويتها، تحول حرم الأميركية وأرجاؤها إلى ساحات تظاهر وخراطيم مياه، وأحياناً، إلى دماء. وكذلك الصحف. وصارت بيروت تهتف لهوشي منه وماو. وعندما توفي عبد الناصر قُتل عشرة اشخاص برصاص الابتهاج، فيما راحت المدينة تستعد لأن تصبح “فيت كونغ” الشرق. لا باريس ولا هونغ كونغ بعد اليوم. ولا مدن كوزموبوليتية، كما عرَّف اليونان القدامى كل ما هو تجمع إنساني واسع ومتعدد. بعد تغير الاسكندرية من مدينة للجميع، تحولت بيروت أيضاً إلى مدينة تضيق بجميع اهالي الأمس. ومع حلول 1975، بدأ التدافع عليها ومنها بالمدافع واراغن ستالين. وبدأ خطف اساتذة الجامعة الأميركية لابلاغها أن لا مكان للأغراب في جوهرة المتوسط. لا مرفأ ولا مطار ولا فون كارايان تحت اعمدة بعلبك. ولا حتى “فخر الدين” او “جبال الصوان”. الطرف الشرقي الأغر والطرف الغربي الأغر، اصبحا “شرقية” و “غربية”. انعزاليون ووطنيون. ابطال وخونة. عسكر وحرامية. حرامية وحرامية.

بقيت الجامعة الأميركية في وسط لبنان، لا شرق ولا غرب. كذلك بقيت “النهار”. جريدة، كلما صاح الديك، تصدر على كل لبنان وجميع العرب وسائر الآفاق. الباقي، تحولات وأزمان وأقدار. لا قسطنطين زريق لأن الزمن لم يعد زمنه. لا انطون غطاس كرم لأن الكلمة لم تعد نحتاً ولا تشبباً. لا يوسف ايبش لأن العالم الاسلامي قد خرج من عالمه. لا شارل مالك لأن الفلسفة لم تعد قضية عامة أيضاً.

الأهم، في الحالات الحضارية الكبرى، هو الاستمرار. وان تكون الجامعة الأميركية قد عثرت أخيراً على رئيس لبناني، الدكتور فضلو خوري، بكل هذه الصفات العلمية، فمسألة تليق بالإثنين، الجامعة ولبنان. لبنان الباحث عن عبقرية النور في جميع عصور الظلام.

وفي أي حال، الحمد لله. 150 عاماً جامعة، وخمسون غراماً خبز كماج، والحسود لا يسود. ويا سائرة بقدرة مولاكِ / سيري فعين الله ترعاكِ.