سنة 2003 استغلت إسرائيل انشغال المجتمع الدولي بأزمة العراق لكي تبني جداراً أمنياً فاصلاً توقعت أن يحميها من هجمات أبناء الضفة الغربية. والجدار، كما وصفه المهندسون، يتألف من حائطين سميكين من الإسمنت يفصل بينهما طريق ترابي عرضة 12 متراً بهدف استكشاف آثار أقدام المتسللين الفلسطينيين.
والغاية غير المعلنة من بناء جدار سميك يحاكي جدار الصين تكمن في غير الأسباب المعلنة المحصورة بعملية الحفاظ على الأمن، وغيرها من الأسباب الملفقة. وحقيقة الأمر أن إسرائيل استغلت فشل المفاوضات وانشغال الرأي العام بحرب العراق لكي تستفيد من هذا الظرف المناسب، لتوسيع رقعتها الجغرافية على حساب الأراضي الفلسطينية. لذلك تعمدت تمرير الجدار في شكل يتوافق مع التخطيط الذي رسمه ارييل شارون لطبوغرافية دولة اليهود… ولاستيعاب آلاف المستوطنين على مدى السنوات المقبلة.
والملفت أن هندسة الجدار استندت إلى مبدأ حماية سلامة المستوطنات، الأمر الذي فرض على المهندسين الالتفاف على مساحات شاسعة يملكها فلسطينيون. ولما اعترض الملاكون على هذا البناء العشوائي الذي يجري من دون استشارتهم وموافقتهم، ادّعت اسرائيل أن المواقع التي يمر فيها الجدار ليست نهائية، وأنها قابلة للتعديل في المستقبل. ولكن التعديل الذي حصل خلال 25 سنة كان مجحفاً بحق السكان الأصليين الذين تعرضوا لمصادرة أراضيهم الخصبة وسرقة مياه آبارهم الارتوازية التي يستخدمونها خلال فصلي الربيع والصيف.
وبعد مصادرة الأرض جاء دور الشعب. ذلك أن الفلسطينيين يؤلفون داخل اسرائيل ما نسبته أكثر من عشرين في المئة من عدد السكان. والحل، كما اقترحه زعماء الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل رئيس حركة «موليدت»، هو تطبيق أسلوب «الترانسفير.»
وكلمة «ترانسفير» باللغات الأجنبية تعني نقل الأموال والأملاك، مثلما تعني النقل من مكان الى مكان آخر. ولكن البروفسور سرجيو فرغولا، رئيس «معهد اليهودية المعاصرة» في الجامعة العبرية، أكد أن «الطرد» هو المقصود بهذه الكلمة ضمن هذا الوضع.
وقد شرح ذلك الوضع بالقول: إن عرب 1948 يؤلفون داخل اسرائيل نحواً من مليون ونصف المليون نسمة. ومعنى هذا أن الضرورات تقضي بـ «طردهم» بصورة تدريجية، أو الانفصال عنهم كشعبين داخل كيانين سياسيين وإدارتين مختلفتين.
ومن أجل «تنظيف» دولة اليهود من العناصر الغريبة، باشرت اسرائيل في تطبيق نظام «الترانسفير»، مع تسهيل سفر الفلسطينيين وتشجيعهم على الانتقال الى خارج حدود 1967.
ادّعت قيادة الجيش الإسرائيلي أن الضرورات الأمنية فرضت عليها بناء جدار فاصل مع لبنان. وقد اعتمدت في تصميمه على الجدار السابق الذي بنته لفصل الأراضي الفلسطينية عن أراضيها بطول يتجاوز 767 كيلومتراً. وبما أن الحدود الإسرائيلية مع لبنان تمتد على مسافة 79 كيلومتراً، فإن إسرائيل تكون قد شيدت أطول جدار فاصل في العالم بطول 846 كيلومتراً- وهو بالتأكيد من أطول الجدران في العالم.
وكما وضعت فوق الجدار السابق أبراجاً للمراقبة وأسيجة كهربائية وآلات تصوير، كذلك ستثبت فوق الجدار الذي يطل من ناحية الناقورة على البلوك – 9 البحري آلات مراقبة مماثلة. أي باتجاه الكتلة الجغرافية التي اختارتها شركات النفط للمباشرة بعملية التنقيب عن الغاز والنفط. وقد سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أن حذر الشركات المتعهدة بألا تبدأ الحفر قبل أخذ موافقة حكومة نتنياهو بحجة أن البلوك 9 يقع ضمن سيادة إسرائيل.
ويرى المراقبون أن بناء الجدار من جهة لبنان، أي بعد مرور 13 سنة على بناء الجدار السابق، جاء لسببين: أولاً، احتمال وقوع حرب مفاجئة، الأمر الذي يحول دون اجتياز مقاتلي «حزب الله» وجنود الجيش اللبناني الى منطقة الجليل الأعلى حيث تخزن اسرائيل ترسانتها العسكرية. ثانياً، استغلال الأوضاع العربية المشغولة بحرب اليمن وإعادة الاعتبار لنظام الأسد في سورية، وتضميد جراحات العراق، وعرقلة خطط الانفراج في ليبيا… كل هذه المتاعب التي يعاني منها الجسم السياسي العربي، تضع لبنان في حال استنفار دائمة. لذلك وجدت اسرائيل في هذا الوضع المتقيّح فرصة لتمرير بناء جدار الفصل مع لبنان. إضافة الى هذين السببين، فإن نتنياهو يطمع في ضم مزارع شبعا.
ولقد شكلت هذه المزارع منذ آذار (مارس) 1932 منطقة تجاذب يوم رسم الفرنسيون خريطة لبنان، واعتبروا أن المزارع الـ12 جزءاً منه. وبقي هذا الواقع قائماً منذ استقلال سورية (1946) إلى أن احتُلّت هضبة الجولان من قِبل إسرائيل في حرب 1967.
وتقع مزارع شبعا على الحدود بين لبنان وهضبة الجولان التي كانت تُعتبر الحدود اللبنانية- السورية قبل 1967. ولكنها اليوم تُعتبر تابعة للجزء الخاضع للسيطرة الإسرائيلية وفق اتفاقية فك الاشتباك.
ولكن دمشق أعلنت مراراً أن مزارع شبعا هي لبنانية مئة في المئة، وأن المخفر المشترك اقتصرت مهمته على منع تهريب الحشيشة ويهود لبنان.
وعلى رغم مطالبة لبنان بممارسة السيادة على كامل هذه المنطقة، إلا أن الأمم المتحدة حتى اليوم لم تفرض انسحاب إسرائيل من المزارع التي تبلغ مساحتها 25 كلم مربعاً.
وتتوقع الحكومة اللبنانية أن تسارع الأمم المتحدة الى حسم هذا الأمر قبل أن تستكمل اسرائيل بناء جدار الفصل. وفي حال بقيت القضية معلقة، فإن «حزب الله» سيعمل على تحريكها بالطرق السياسية قبل أن يقدم على مواجهة إسرائيل.
ويتخوف أمين عام الأمم المتحدة من حدوث انفجار عسكري على الجبهتين السورية واللبنانية، خصوصاً أن قواعد اللعبة، التي استمرت سبع سنوات من الحرب الأهلية في سورية، قد تبدلت. والسبب أن القوات الإيرانية في سورية قد وجهت طائرة من دون طيار، قامت إسرائيل بإسقاطها قبل أن تضرب مفاعل ديمونا النووي. وكان من نتيجة تلك المواجهة الصامتة إسقاط طائرة إسرائيلية من طراز أف – 16، أرسلت للقيام بغارة جوية ضد شحنة أسلحة مرسلة من إيران إلى «حزب الله.»
وظهرت تلك العملية المفاجئة، التي رفعت من شعبية بشار الأسد، كصفعة موجهة إلى الرئيس فلاديمير بوتين الذي أعطى نتانياهو حرية العمل في سماء سورية. ولقد فهمت إسرائيل عبر تلك الرسالة السياسية أن طهران أصبحت سيدة الموقف في سورية، وأن روسيا تراجعت حرصاً على استثماراتها الاستراتيجية والعسكرية.
على ضوء هذا الوضع المتأزم في المنطقة، توجه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني إلى موسكو بهدف إقناع الرئيس بوتين بضرورة ضبط ايران، والحؤول دون التصعيد من خلال التطورات الأخيرة.
وترى القيادة الإسرائيلية أن الحرب الأهلية التي ستدخل سنتها الثامنة في آذار (مارس) المقبل، ستؤخر ظروف الحل السلمي الذي تراهن عليه روسيا وإيران، خصوصاً بعدما قررت واشنطن تزويد المعارضة بأسلحة متطورة كالتي استخدمتها ضد الطائرات الروسية الموجودة في قاعدة حميميم…
وهذا معناه أن مشروع إنقاذ الرئيس بشار الأسد لم تكتمل عناصره بعد!