IMLebanon

هدير الحرب… فهل نردّد مثل الببغاء: تنذكر وما تنعاد؟

 

1975ـ 2021 ونستمرّ في الدهليز الكبير

هي الحرب أم هو بعض الحرب أم أن ما نشهده هو مجرد تكتيك، يشدّ ويرخي، ومن يصمد فيه أكثر يربح أكثر؟ في الذكرى السادسة والأربعين على 13 نيسان ذاك ما زلنا نخشى من حربٍ ونقف أمام الأفران ونُخزّن الشموع ونُصفق للكهرباء متى أتت ونلهث وراء تنكة البنزين ونهرول وراء اللقمة، وكأن لا سنين مضت ولا عمر انقضى ولا نضوج حصل ولا وطن قام ولا ذاكرة تعلمنا منها شيئاً. وفي كلِها نظل نردد مثل الببغاء: تنذكر وما تنعاد! فهل هناك لزوم لترداد هذه العبارة مع المرددين والمطبلين والمغردين أم أن ما يُجدي اليوم هو صفع وجوه من يحشرون أهل البلد بالقوة في نفق الموت علّهم لا يمعنون “بقا” في غرز السكين تلو السكين في لبنان المتحول الى مقبرة كبرى؟ 1975-2021… وما زلنا في الدهليز الكبير.

 

13 نيسان 1975. كان والدي جوزف يجلس على شرفةِ منزله في الشياح، فوق سينما دنيا، وفي يده نربيج نرجيلته. وبدأ إطلاق الرصاص وأصابت واحدة كرسيه، وكادت تقتله، فأمسك بأطفاله الثلاثة وهرول في اتجاه منطقة الأشرفية حيث تركهم عند بيت جدهم هناك وعاد ليجد بيته مسروقاً بالكامل وما بقي منه بات مزروعاً بالرصاص. بدأت الحرب اللبنانية. ومرّت الأيام صعبة أمضى نصف عمره فيها واقفاً أمام الأفران ومحطات البنزين وينابيع المياه علّه يؤمن لعائلته بعض سبل البقاء. مات والدي. وها نحن نجدد مسيرته نلهث وراء بنزين وخبز ومياه وكهرباء وحياة. 46 عاماً مضت وما زلنا، في كلِ نيسان، نسأل: شو تعلمنا من حربٍ حصدت 134 ألف ضحية و17 الفاً و415 مفقوداً و13 ألف معوق؟ ما زلنا، مثل الببغاء، نسأل: هل ما نعيشه من ذلٍّ هو حرب؟ هل مات من ماتوا كي نحيا ام ماتوا في حرب مبعثرة مضللة؟ وهل بعض مظاهر الحرب حرب؟

 

خرج السلاح الفلسطيني. وخرج السوري. وخرجت إسرائيل. وكلام بشار الأسد ما يزال يرنّ، وهو يغادر طرداً من لبنان: تحتاج الحرب الأهلية في لبنان الى أيام لتنشب وليس الى أسابيع وأشهر. فهل هو من لا يزال يُمسك برقابنا أم نحن من نسمح له بأن يفعل ويشدّ؟

 

ننام على حلم بوطن ونستفيق على بعبع الحرب مقرونة بعبارة الأهلية، الحرب الأهلية. والأهل هم الوالدان والإخوة والأخوات والأقارب والمعارف والأصدقاء والأحباب، أي بين اللحم واللحم. فلماذا كُتب لنا أن نظل نعيش في هذه المساحة؟ أليس هناك مطهر وجهنم؟ وهل كل ما قطعنا فيه كان المطهر وها نحن في جهنم؟

 

نجول في بيروت التي كانت جميلة فنراها تعيش من قلة الموت. نراها حزينة، مظلمة، ونرى كثيراً من صور الشهداء الجدد معلقة على جدرانٍ صمدت بعد زلزال الرابع من آب. فهل هذا المشهد وحده كفيل بتذكيرنا أننا في حرب دائمة. نيأس؟ في بيروت ما يوحي دائماً بالتفاؤل. البحر تفاؤل. زرقة السماء تفاؤل. نيسان تفاؤل. والتدرج الإنسيابي الجغرافي بين البحر والجبل فيه بعض التفاؤل. ونبض اللبنانيين في لملمة جراح بعضهم البعض، بعد كل زلزال ونكبة، تفاؤل. فهل يكفل كل ذلك في جعلنا نستبعد تجدد زحف الحرب الحقيقية؟ التياترو الكبير، شارع المصارف، ساحة رياض الصلح، ساحة الشهداء، كنيسة الكبوشية، مبنى اللعازارية، سيتي سنتر- الدوم، الهيلتون، شوارع غورو، ويغان، اللمبي سينما بالاس، أمبير، متروبول، روكسي… مشاهد بيروتية تذكرنا، بين الأمس واليوم، بأن الحرب لم تنته. فهل نحن من لم يعرف كيف يقرأ التاريخ أم أن من يستلمون منذ زمن مصائرنا يقررون وحدهم تاريخنا؟

 

كيان وطوائف

 

حين ينظر الأستاذ في علم الإجتماع أحمد بعلبكي الى مشهدية اللحظة يعود تلقائياً الى مرحلة “تأسيس الكيان” ويقول: “شُكّل الكيان اللبناني من 18 طائفة، وهناك طوائف طبعاً أكبر من طوائف، لكن ما “ينغل” واقعياً هي أربع أو خمس طوائف نراها اليوم ممسكة في تشكيل الوزارات وتُعتمد في التركيبة اللبنانية منذ العام 1943. وهذا النوع من التشكيل لا يبني وطناً لكنهم “ركبوا” منه وطناً. ويستطرد بالقول: “ساقبت” من حظنا سابقاً أن هذا الكيان كان ضرورة نظراً لعطاءاته وكل ما وفره للمحيط من جامعات ومستشفيات ومصارف وكان يملك قدرات على صعيد الإصطياف. كل هذه الثروات استفاد منها المشرق العربي، وجعل لبنان يؤدي دور الوساطة بين بعض الشرق وبعض الغرب. هي فرصة عشناها على مدى خمسين عاماً وإن لم تكن كلها عسلاً. وكل الطوائف كانت لها امتدادات خارجية شرقية أو غربية. فالطوائف الداخلية لا يمكنها وحدها أن تواجه إذا لم تستند الى الخارج. فها هي الطائفة الدرزية عديدها 300 ألف في لبنان، بحجم سكان صيدا، وتلعب دوراً بارزاً بين الطوائف اللبنانية”.

 

ما بعد الحرب

 

ما رأي الدكتور في علم الإجتماع أنطوان مسرة بمشهدية اللحظة؟ هل نحن نعيش اليوم في حرب مقنّعة؟ يجيب: “من شبه المستحيل العودة الى حرب أهلية بين من خاضوها بين عامي 1975 و 1990. فلا أحد خاض الحرب وعاش تجربتها ويعود إليها. وهذا ليس في لبنان وحسب بل في سائر العالم أيضاً. فمن عاشوا الحرب لن يعيدوا إنتاجها، لكن بعد مرور جيلين او ثلاثة سيظهر من يريدون الإنتقام إلا إذا جرت إعادة بناء الذاكرة من خلال برامج وطنية. وهو ما لم يحصل في شكل عميق في لبنان”. ويتطرق مسرة الى المسعى الريادي من خلال خطة النهوض التربوي الواردة في إتفاق الطائف بين عامي 1992 و1996 لإعادة النظر بكل البرامج وخصوصاً التربية المدنية وكتابة التاريخ في المركز التربوي للبحوث والإنماء الذي كان هو عضواً فيها ويقول: “أصدرنا أكثر من 25 دليلاً لا تزال في الإستخدام لكن بعد إقصاء منير أبو عسلي أصبح العمل بيروقراطياً يفتقر الى الروحية المثلى. أما في ما يتعلق ببرامج كتب التاريخ فخلافاً لما يقال وينشر تمّ صدورها في الجريدة الرسمية في حزيران عام 2000 وبعد المباشرة بإصدار كتب التاريخ تمّت عرقلة المسار عند وزير التربية آنذاك عبد الرحيم مراد ليس لسبب بل لحجة ورود فتح الإسلام وما الى ذلك. وبدل إلغاء هذه الصفحة ألغي كل المشروع لأنهم اعتبروه خطيراً، بمعنى انه يساهم في ولادة جيل جديد له حرص على السيادة والذاكرة ويملك رؤية تاريخية علمية وواقعية. وهذا ما بدا ممنوعاً في عهد الإحتلال”.

 

تكرار إجتراري

 

ممنوع على الأجيال الجديدة قراءة التاريخ في شكل واقعي. وهذا خطير. ويتحدث مسرة عن “أزمة النقل” التي نعيشها ويشرح “بدا صعباً نقل كل خبرات الأجيال الماضية الى الأجيال الجديدة لذلك ما نعيشه الآن هو آليات التكرار وهذا سبب للتخلف. والتخلف يتجلى في عدم تراكم المعرفة وعدم تطور العقل فنرى الجيل الجديد يعود الى نفس السلوكيات ويعيش نفس الأزمات. وأزمة نقل القيم خطيرة. فنرى التكرار الإجتراري وكأننا لم نختبر كل ما اختبرناه خلال كل الأعوام السابقة. فنرى أننا في حالة حرب أهلية مستمرة في ظل وقف إطلاق للنار دائم ولسنا في سلم دائم وعميق. لأننا لم نسمح في نقل تراث لبنان الى الأجيال الجديدة. لذا المطلوب برامج تطبيقية لنقل ذاكرة تراث لبنان”.

 

ثمة أزمة واضحة واحدة منها “النقل السليم العميق”، أجبرونا على العيش فيها وراحوا يجترون الأحداث التي يشاؤون سردها. ومنعوا تأريخ أحداث الماضي انطلاقاً من ظروفها. فها نحن نقرأ عن أحداث 1860 بين الموارنة والدروز لكن لا أحد يقرأ في التفاصيل المحيطة في ذاك الزمان. ويخبروننا عن إعلان دولة لبنان الكبير لكن لا نعرف عن الظروف التي دفعت كلّ المسلمين والمسيحيين في تلك المحطة الى انتهاج ما اختاروه. وفي المحصلة، نحن بحاجة اليوم أكثر من أي يوم آخر، مع كل ما نحتاج إليه طبعاً، الى تعلّم التاريخ الحقيقي الواقعي ونقل الذاكرة وتراث لبنان كما نجحنا أقله في نقل فن الطبخ الى كل المناطق والخارج. وهنا يتوقف مسره عند قول فولتير: السياسة فن لدى سياسيين بلا أخلاق للتلاعب بأشخاص بدون ذاكرة. فلننقِّ الذاكرة إذا أردنا عدم اجترار الماضي”.

 

نتمنى ذلك، والى حين يتحقق ما تمنيناه نبقى في حالة وقف إطلاق نار مستمرة لأن الثقافة اللبنانية، من خلال كل التجارب، لم تنتقل الى الأجيال الجديدة.

 

وحيدون

 

نعود الى الدكتور أحمد بعلبكي الذي حكى عن خمسين عاماً عشناها من خلال الفرص الإقليمية والدولية لكن، هل هذه الفرص لا تزال متاحة اليوم في 2021؟ هل هناك من يبالي اليوم بنا؟ يجيب “قدراتنا المحلية تضاءلت كثيراً اليوم وما عاد العالم، الإقليمي والدولي، بحاجة إلينا. لا حاجة ليكون لبنان وسيطاً الى هؤلاء. لكن، هذا ليس معناه أننا مقبلون على الحرب فلا أحد له جلد أن يقاتل. ولا مال. وأقصى ما يمكنهم فعله هو الحرب التلفزيونية”. لكن، هناك طرف واحد يملك السلاح والمال؟ يجيب “يبقى “حزب الله” قوياً حين يبرر وجوده لمواجهة إسرائيل. لكنه سيكون ضعيفاً جداً إذا ارتدّ الى مواجهات داخلية”. يضيف: “في رأيي أن تماسك “حزب الله” يكون بحسب الهدف الذي يوجهه نحو محاربة إسرائيل. وأرى وجوب أن تشارك كل الأحزاب في لبنان في مواجهة إسرائيل. فليقدم كل حزب وتيار ميليشيا من 200 شخص لحماية لبنان”.

 

إذا كان لا بُدّ من بقاء سلاح “حزب الله” لمواجهة إسرائيل. فلتشارك كل الأحزاب إذاً عبر كتائب محددة في المواجهة. وليكن هذا هو حزب المواجهة إذا تعرض لبنان الى خطر. هي فكرة تستحق أن تُصبح مشروعاً.

 

هل نردد من جديد: تنذكر وما تنعاد؟ الثابت أن لبنان على شفير خطير. وهو، لتستعر فيه الحرب، يحتاج الى ظروف إقليمية ودولية غير متوافرة الآن. فسوريا، بحسب بعلبكي، تنتظر لترى ماذا ستؤول إليه حالها. والعراق ايضاً. والكيان اللبناني يصلح، بعكس كل ما يشاع، لينطلق من جديد. وفي هذا الإطار يقول بعلبكي “أي كيان يمكن أن يعيش. سويسرا إثنيات مختلفة ولغات وتعيش. وفرنسا ليست من عرق واحد. دول عظيمة كثيرة تشكلت من أعراق متنوعة”.

 

وماذا بعد؟

 

تتطلب ظروف الحرب لتتم درجة عالية من الإنقسام الداخلي، فقد يكون في مكان ما برميل مازوت والى جانبه شحنة كبريت ويتعايشان معاً، الى أن يأتي من يُشعل الفتيل. الحرب بحاجة الى يد تُشعل الفتيل. والى ضرب المؤسسات الدستورية ومؤسسة الجيش والمؤسسات التي تشكل مناعة للمجتمع وبينها المؤسسات الدينية والإقتصادية والمالية. ما نراه اليوم يصبّ في هذا الإتجاه لكن العالم مشغول بنفسه والظروف الإقليمية غير مؤاتية. اللهمّ أن يصدر قرار من مكان ما، من “شقيقة” أو “شقيق” يعلن: عليّ وعلى أعدائي.

 

اليوم، 13 نيسان. وقف إطلاق النار في لبنان مستمر. لكن المؤسسات تتدحرج. و”الغالونات” عادت تملأ حياتنا. والمخاوف جدّ كثيرة. والذاكرة مفقودة. فلنأمل أن تنذكر وما تنعاد.