تتزاحم الأفكار والأسئلة مع مرور الذكرى السنوية لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في الثالث عشر من نيسان من كلّ عام. هل كان من الممكن تلافي الحرب؟ ألم يكن في المستطاع بناء تفاهمات بين اللبنانيين تحول دون إنزلاق البلاد إلى ذلك المنعطف الخطير الذي استمرّ على مدى 15 عاماً؟ هل كانت مطالب الإصلاح السياسي التي هدفت إلى المساواة بين المواطنين بما يوفر مناخات العبور التدريجي نحو إلغاء الطائفيّة السياسية وإقامة الدولة المدنية، مطالب مستحيلة؟
على قدر أهمّية وصعوبة هذه الأسئلة التي تلامس الإجابات على بعضها حدود الاستعصاء، لا سيّما أنّها تساهم في تنقية الذاكرة الجماعية والعمل في اتجاه القيام بما توجبه مسؤولية النقد الذاتي عن الحرب؛ إلا أنّ ثمّة أسئلة تتجاوز بمحوريتها تلك التساؤلات الجوهرية والعميقة. سرعان ما يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل أن الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى انفجار الحرب سنة 1975 قد انتفت؟ أو أن تجدّد الحرب والنزاع المسلّح يبقى من الاحتمالات الواردة في ظلّ تعمّق الانقسامات المحلية وانتشارها أفقياً وعمودياً نحو كلّ نواحي المجتمع، وفي ظلّ إستمرار التأثيرات الخارجية التي ربّما تكون شهدت تبدّلاً في هويات اللاعبين إلا أنّها لا تزال تفعل فعلها في الساحة الداخلية من خلال الأذرع المحلية التي تفاخر بتأدية هذا الدور؟
ثمّة من يقول إنّ التاريخ يعيد نفسه، ولكنّ المصطلح الأدقّ هو أنّ التاريخ تتشابه أحداثه. وفي الحالة اللبنانية البائسة الأحداث تتشابه مجدّداً. المطالب الاصلاحية التي رفعتها الحركة الوطنية اللبنانية سنة 1975 بقيت سقوفها أكثر إرتفاعاً من الاصلاحات السياسية التي أقرّتها وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (إتفاق الطائف) سنة 1989. المثال الصارخ على ذلك يتمثّل في الامتناع عن تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية التي كان يفترض أن تتزامن مع إجراء إنتخابات نيابية خارج القيد الطائفي مقابل إنشاء مجلس الشيوخ الذي تتمثّل فيه الطوائف والمذاهب.
قد يبدو هذا الكلام طوباوياً للبعض، ولكنّه الممرّ الحتمي والوحيد لخرق جدران الطائفية التي انتصبت خلال الحرب ومن ثم زاد إرتفاعها في حقبة ما بعد الحرب، وهي حركة معاكسة للتاريخ، والسبب في ذلك هو إصرار بعض القوى السياسية على توسّل الخطاب الفئوي والطائفي والمذهبي لتعزيز حضورها الشعبي والايحاء لناخبيها بأنها تواجه مخطّطات جهنّمية ترمي إلى قضم حقوقها وأنها تتصدّى لها بكلّ قواها. ثمّة عدو لا بدّ أن يتمّ التفتيش عنه دائماً لإلباسه لباس الانقضاض على حقوق “الطائفة”.
لا شك أنّ الظروف السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في حقبة منتصف السبعينات غير موجودة حالياً. حتّى أن هويات اللاعبين الاقليميين المتصارعين تغيّرت بشكل كبير، والنزاع إتّخذ أشكالاً وعناوين أخرى بوسائل مختلفة. كما أنّ صعود اللاعبين من خارج نادي الدول التقليدية هو عامل أساسي لا يمكن إنكاره لأنه ساهم بشكل أساسي في تغيير قواعد اللعبة.
إلا أنّ الانقسامات المحلية لا تزال قائمة وبقوة. كما أن الفشل الجماعي الذريع في التفاهم على السياستين الخارجية والدفاعية يفاقم تلك الانقسامات ويجعلها تطفو على السطح بين الحين والآخر، من دون الوصول إلى تفاهم يجعل من هذه العناوين مجالات للالتفاف حولها بما يؤسّس لبناء ثوابت وطنيّة مفقودة.
تكرار تجربة الحرب الأهلية بكل مآسيها وصراعاتها الدموية لا يبدو متاحاً حتى اللحظة، ولكن هذا لا يعني أن الانفجار الاجتماعي بعيد بفِعل سياسات الاستكبار والافقار التي تُمارس بحقّ اللبنانيين بوقاحة موصوفة وغير مسبوقة. هل تعلّم البعض الدروس واستخلص العِبر؟ خطاباتهم المتلفزة لا توحي بذلك!