عن الدولة المؤجلة والثورة الضرورية
الحرب الأهلية اللبنانية التي انفجرت في نيسان 1975، في ذكراها الخامسة والأربعين، مناسبة متجددة لطرح كثير من الأسئلة بالرغم من مرور قرابة ثلاثة عقود على انتهائها «النظري» في 1989؛ أسئلةٌ عن مبرر الفظائع التي ارتكبت ولم تتم محاكمة مقترفيها، عن حقيقة التمسك بالسلم الأهلي الهشّ والمواطنة المفقودة وعدم استخلاص العبر من إرث الحرب الثقيل، عن سرّ تأخر إعادة بناء الدولة، أسوة بكل دول العالم التي أصابتها لوثة التقاتل الداخلي، ثم عبرت منه إلى سلم أهلي مستقر، عن سرّ استمرار، الطائفيين والحاقدين والشعبويين والسماسرة والفاشلين وناهبي المال العام وحقوق الشعب في تَسيّد المشهد، وتقاسم مكاسب السلطة.. وبعد كل ذلك، سؤال ضروري عن إمكانية انهيار ما تحقق في ظل تلكؤ المشاركين في الحرب أو بعضهم ومن لحق بهم عن إجراء مراجعات نقدية لما ارتكبوه، وما يزل مستمراً، بحق الوطن والإنسان.
لسنين طويلة كان لبنان مسرحاً لحرب بشعة على أرضه، استنزفت من دماء أبنائه وحيواتهم وأرزاقهم وتعليمهم وتآلفهم وعيشهم الواحد، وفوق ذلك استنزفت استقرار البلد السياسي والاقتصادي والأمني.. هكذا، وبفعل حاقد، صار البلد الذي كان أنموذجاً رائداً في التعايش والتعددية والنمو، «شبه وطن»، مقسّم ومثقلاً بالاضطرابات الأمنية وموزع الولاء على المحاور والمتربصين وفاقدي الانتماء، ومثقلاً أيضاً بالديون التي أرهقت اقتصاده وماليته ونموّه، لكن الأخطر من كل ذلك هو «مشروعات الحروب» الكامنة في نفوس وعقول وممارسات كثيرين، وتتحين الفرص للانقضاض على كل ما أنجز منذ انتهاء الأعمال القتالية بعد اتفاق الطائف في 1989.
يحلو لكثيرين في مقام تذكّر الحرب اللبنانية، استعراضُ ما حفظه الأرشيف من صور ومشاهدات تجسّد فظاعة الارتكابات والأهوال والمآسي التي صاحبتها، صورٌ سكنت الذاكرة من دون استئذان، وتنطق برغم صمتها بألف حكاية وجع، ولا تكفّ تؤلم من عايش تلك المراحل لأنها تجسّد الإرث الثقيل لعمليات القتل والخطف والتنكيل بعبثية وطيش واحتقار لكل المفاهيم الإنسانية والدينية والثقافية.. إرثٌ ترك ندوباً كبيرة في الذاكرة اللبنانية، بشقيها الفردي والجماعي، وهو ما يحول دون تجديد حقيقي للعقد الاجتماعي، بشروطه المعتبرة، كمدخل للتسوية التاريخية بين اللبنانيين، تعزز ما توصلوا إليه في الطائف، على غرار ما آلت إليه تجارب أمم مرت بظروف مشابهة، فكل شيء يبقى كامناً إذا لم يتحقق شرطا: «التذكّر» و«الاعتراف»؛ تذكّر أبطال الحرب لـ«أدوارهم»، واعترافُ الجلادين بما اقترفوه، ومن ثم طلب السماح من الضحايا كمدخل ضروري للنسيان والتجاوز وطي صفحة الماضي ومباشرة تاريخ جديد، وكل ذلك.. كل ذلك قليل جداً إذا ما قورن بالتركة الباهظة التي خلفتها عشرون سنة من الاقتتال بحق البشر (200 ألف ضحية، و197 ألف جريح ومعاق، و19 ألف عملية خطف) والاقتصاد والمؤسسات.
كيف نلغي خطوط التماس من وعي اللبنانيين، ونغرس مكانها حقائق نظيفة تبني الغد على أسس صلبة؛ حقيقة أن حماية النظام ليست من مسؤولية الطوائف أو ميليشياتها، بل مسؤولية المواطنين في صون الوطن من خلال مواطنة كاملة ومتساوية، وحقيقة أن الخلافات حول الصلاحيات والإصلاح والفساد ليست سوى واجهة لمطامع عميقة وكبيرة، وحقيقة أن الدولة ضعيفة أو مستضعفة، وحقيقة أن الاستسلام للخارج، أيّ خارج، هو ارتهان يستجلب ذلاً ودماراً وتفكيكاً للعقد السياسي والاجتماعي، من دون أن ينتج أية مكاسب، وحقيقة أن التنوع قيمة مضافة، وأن الاختلاف سُنة إنسانية مشروعة، وأن التماهي مع القضايا الخارجية لا ينبغي أن يتقدم على المسألة الوطنية في شيء، وحقيقة أن اللجوء الى الحوار لحل المشاكل والخلافات ضمن التعدد هو ما يميّز هذا الوطن كنموذج لتلاقي الاديان والحضارات، وحقيقة أن الطبقة السياسية فشلت في لملمة تداعيات الحرب بالرغم من مضي 30 سنة على الانتهاء النظري لها، إذ بعض ملفاتها ما زالت حاضرة وبقوة، بآلامها ومآسيها وصورها، وربما بممارساتها، من يعطي جواباً شافياً لأهالي المفقودين الذين يحفر الوجع في قلوبهم منذ عقود؟ وكيف يعقل أن ملف التهجير والمهجرين لم يقفل حتى الآن؟ ولماذا لا ننعم بقانون انتخاب «منطقي» يتيح تجديد الحياة السياسية.. ولماذا ولماذا؟!
ما يعانيه لبنان وشعبه منذ التسوية الرئاسية المشؤومة (2016)، ومن بعدها قانون الانتخاب الحاقد في 2018، اللذين سلما البلد لقمة سائغة لهيمنة السلاح ولجوعٍ قديم للتسلط والنهب والتهام المناصب والمواقع والمكاسب؛ من كيدية وإفلاس وتجويع وتضييق على الحريات وتغيير في طبيعة النظام، يستدعي، كما الأداء السلطوي قبلهما، بالحدّ الأدنى ثورة تعيد تصويب البوصلة الوطنية، وتكوين مشهد جديد، تشكل بارقة أمل، وتساهم بلملمة ما خلفته ذهنية الحرب المستمرة على الدولة والنظام والشعب.
نعم. إن لملمة إرث الحرب ممارسة جمعية، لكنها قبل ذلك سلوك فردي. في مراجعات السياسيين، في تراجع الجلادين، في شهادات الضحايا، في ثورة الشباب والأحرار واليائسين وكل المتضررين من تعسف السلطة. وإذا كانت الذاكرة تحفظ أحداث الماضي عِبرةً للمستقبل، فإن النسيان يقول لنا أي ذاكرة تستحق أن نحتفل بها أو نحتفي بطيّها، وأي ذاكرة علينا أن نتركها تذهب بسلام ليلفها النسيان ببلسمه، فللتاريخ وظيفة تربوية، وليس فقط ايضاح الحقائق. وفي بلد تعددي منقسم، مثل لبنان يجب أن تكون هذه وظيفة التاريخ ودوره، لكن دون تشويه أو تعمية أو كتمان.
في ذكرى الحرب الأهلية، نحتاج ذاكرة من نوع آخر، تحتفظ بخطوط التماس لكن لتدلل فقط على آثار الحرب البغيضة، وتحذر من تكرارها، ولتذكر اللبنانيين بأنه كان من الممكن جداً تفادي كل ما حصل لو أعملوا العقل، وأعلوا المصلحة الوطنية.. إذ لا يكفي أن نردد في كل مرة وذكرى «تنذكر وما تنعاد».