Site icon IMLebanon

حرب ٢٠٢٤: صمدَت المقاومة مانعةً دخولَهم فلو صمدَت جيوش ٦٧ لما سُمّيَت هزيمة!

 

هل نستطيع تبرير بعض المقارنات التي يُجريها أهل ثقافة وعلْم في لبنان والعالم العربي بين عدوان أيلول ٢٠٢٤ وهزيمة ١٩٦٧؟ وهل من المنطق التساهل في تشبيه شيء بشيء أو حرب بحرب متغاضين عن فوارق جديّة يجدر أن يشار إليها بوضوح لتمييز الأحداث وتفاصيلها؟

حرب ١٩٦٧ كانت بين إسرائيل وأربع دوَل عربية هي مصر وسوريا والأردن وفلسطين. وقد بدأت بضربِ الطيران الحربي الإسرائيلي جميعَ القواعد الجوية في الدول المعنية، فدُمّرت طائرات العرب الحربية وهي على الأرض. بعد ذلك حصل الهجوم البرّي الواسع الذي لم يكلّف إسرائيل وجيشها إلّا.. مسافة الطريق في شبه جزيرة سيناء إلى قناة السويس، والجولان إلى مدينة القنيطرة، والضفة الغربية بما فيها القدس. بمعنى أنّ مقاومة جيش إسرائيل على الأرض من قِبَل جيوش الدول العربية لم تحصل كما يجدر بالجيوش أن تفعل، فاستقرّت إسرائيل وجيشها بعد ستة أيام باحتلال ما احتلّت.

 

سُمّيت هذه الحرب بهزيمة حزيران ١٩٦٧… ذلك أن خطط القتال في الجيوش العربية المعنية كانت تعتمد على الطيران الحربي عندها، ليحمي الجيش على الأرض في حال التقدّم أو القتال، وعندما تحطمت الطائرات، تحطمت معها أدوات العسكر ونفسياتهم فباتوا يشعرون بأنهم بلا حماية جوية، وتالياً مكشوفين أمام طائرات العدوّ التي سحقتهم، فأعمَل جيش اليهود المجازر بالجنود، وشنّع في عدوانه بأن قام بدفن أرتال من جنود مصر الذين وقعوا في الأسر، في حُفر عملاقة، وهم أحياء.

فلو أن الجيوش العربية المذكورة كانت لديها خطط تتخطّى أهمية الطيران الذي يحميها، أقصد خِططاً برّية (كما فعَل مقاومو الجنوب وفوقهم طائرات حرب وتجسّس هائلة العدد والفاعلية) وقاومَت على حدودها وقاتلت الجيش الإسرائيلي ومنعته من احتلال بلادها، هل كان يمكن أن تسمّى تلك الحرب «هزيمة حزيران»؟ طبعاً لا، لأنه في ميزان الحروب، لا هزيمة إذا لم يدخل جيش العدوّ أرض الوطن. كانت ستسمّى حرب ١٩٦٧ لا هزيمة ١٩٦٧. وكانت الجيوش ستكسب مصداقية عالية لثباتها الميداني الذي «منع» العدوّ من الانتصار واحتلال الأرض، أما خسارة الطائرات الحربية فكانت ستُحسَب بين الخسارات الناتجة من الحرب، ولن تشكّل بنفسها هزيمة.

 

أغلب القادة العسكريون في الدول المُصابة بعدوان ١٩٦٧، وفي جيوش الدول الأخرى يومها اعتبروا أن القيادات العسكرية في مصر وسوريا والأردن كان ينبغي أن تستعدّ لمثل تلك المفاجأة العدوانية الإسرائيلية الخاطفة في الجوّ، بأجراء خططٍ مسبقةٍ بديلةٍ ذات تركيز أرضيّ بَري، لمواجهة خطر تدمير الطيران الحربي في قواعده وقبل أن يتحرّك، وهو خطر كانت الصحف في العالم العربي وبعض دول العالم الأخرى تتحدث عنه كأمر مُنتظَر ومتوقّع ومبتوت، ولم تتنبّه الدول العربية الثلاث إليه.

نأتي إلى عدوان ٢٠٢٤: في هذا العدوان على لبنان يمكن تشبيه مقدّمة حرب ١٩٦٧ بمقدمة حرب لبنان الحالية فقط، أما بقية مجريات الحرب والمواجهات والثبات على الحدود فقضية مختلفة تماماً. المفاجأة حدثت فعلياً قبل العدوان بشهر تقريباً، وكتمهيد له، إذ عمدت إسرائيل إلى ضربة استخبارية هائلة هي تفجير «البايجرز» (جهاز تواصُل داخلي) الذي يحمله أكثر من أربعة آلاف مقاتل من «حزب لله» في لحظة واحدة، ضربةٌ وضعَت الحزب في أقسى تجربة ميدانية عبر بتر أصابع وإصابة عيون ووجوه وصدور وأرجُل وبطون ما لا يقل عن أربعة الآف مقاتل، أتبعَتهم إسرائيل في اليوم التالي بتفجير جهاز تواصل آخر بخمسمائة مقاتل أيضاً أصيبوا في أطرافهم وأماكن من أجسادهم. فلماذا تم التفجير بآلاف المقاتلين قبل الجهوزية الكاملة لدى جيش إسرائيل للحرب؟ في المعلومات حتى الإسرائيلية تبيّن (عبر تقنيات حسّاسة ذات استشعار فائق) أن اثنين من عناصر الحزب كشفوا التفخيخ الإسرائيلي المبتكَر، وقبل أن يصل الخبر منهم إلى القيادة التي ستدعو طبعاً إلى التخلص الفوري من «البايجرز»، فجّرتها الاستخبارات الاسرائيلية قبل أوانها الحربي المباشر، أي الاجتياح، إذ كان الأوان الدقيق لها تحديداً في يوم اجتياح لبنان نفسه، في البرّ، ليقلب الطاولة الحربية رأساً على عقب ويُحبط المقاتلين ويربكهم ويَقتل أغلبهم بَغتَةً وهم في الميدان، فتسهل عملية احتلال الأرض أمام مقاومة مضروب عناصرها بالتفخيخ!

 

فجّرت استخبارات إسرائيل «البايجرز» في حالة «إضطرارية» في وقت كانت فِرَق الجيش تنتقل من غلاف غزّة إلى الحدود الجنوبية للبنان وتتجهّز ولم تكن اكتملت ظروفها بعد. وتوازياً إغتالت إسرائيل قادةً ميدانيين أساسيين في المقاومة، فراكمَت من الإرباك والتشتت. وبعد أسبوعين اثنين (كانت خلالها المقاومة وقفت على قدميها بعد الصدمة الجامحة) بدأت إسرائيل حربها الطاحنة في تدمير القرى والبلدات والمدن في الجنوب والبقاع والضاحية، وتهجير نحو مليون شخص في يوم واحد من التجزير بالبشر. وفي لحظةٍ قاتلة اغتالت أمين عام الحزب السيّد حسن نصرلله، فاعتبرَت إسرائيل أن كل تلك الضربات المتتالية والعنيفة «أنهت» الحرب و«أنهت» حزب لله من بدايتها كما حصل في هزيمة ١٩٦٧ حين قُصفت طائرات العرب الحربية في مهدها.

لكنْ باستنفارٍ دفاعي مخطط له على ما يبدو، ومدروس سابقاً «لكل الاحتمالات»، يمكن القول أن الضربات الإسرائيلية الكافية لضياع «العدوّ» استوعبتها المقاومة بسرعة قياسية توازي سرعة القتل، وتم تعيين بدائل عاجلة للمُستَشْهَدين من مساعدي القادة في مراكز القيادة وأصبحت جميع المواقع القيادية في جهوزية جديدة وتامة، وعُيِّن السيد هاشم صفيّ آلدين خلفاً للسيد نصرلله. فقتلت إسرائيل صفيّ الدين في غارات كانت تستعجل استسلام حزب لله كلّه وتصفيته. غير أن شعور حزب لله بعِظَم الهجمة الإسرائيلية غير المسبوقة لا شكلاً ولا مضموناً، صعّد من الاندفاع إلى الدفاع عن الأرض، واعتبار الميدان مناسبة لتعويض الخسارات البشرية الاستثنائية في المقاوَمة. وبطريقة شرسة جرى القتال الذي من اليوم الأوّل راح فيه قتلى وجرحى من ضباط وعناصر العدوان يتساقطون، وانطلقَت فجأة إشارات التبرّم من الجنود الذين كانوا يتهيبون جبهة الجنوب لما في ذاكرتهم وذاكرة أسلافهم من جحيمها وتوابيتها، وبدَا أن الإعلام الداعم والمعارض للمقاومة يكتشف ربما للمرة الأولى قوّة حزب لله واستعداداته وروحية الفداء. سبعون ألفاً من اليهود مقابل أربعمائة مقاتل من حزب لله.. وكانت إسرائيل تنتقل من محور تتعرقل فيه حركتها وتصطدم بالموت والجراح على الحدود إلى محور آخر، مواظِبةً على محاولة إحداث اختراق ميداني يُعتدّ به فلم تظفَر بما أمّلت، وبلغت محاور محاولات التقدّم سبعة، وراءها آلاف مؤلّفة من النُّخب العسكرية في الألوية الشهيرة بالقتال التاريخي مع العرب، وأظهر المقاومون بسالة نادرة على الأرض مانعين العدوّ من إحراز خطوات داخل التراب اللبناني، في وقتٍ كانت الصواريخ من جميع الأشكال والألوان تضربُ مدن إسرائيل، ناهيك عن ظهور الطائرات المسيّرة الانقضاضية التي فتكَت بسمعة لواء غولاني، وقصفت منزل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وأذهلت المجتمع اليهودي الذي اكتملَ ذهولُه بأعداد القتلى والجرحى وأخبار «حدث صعب في الشمال» و«يوم مؤلم في الشمال» وغيرها، في حين فرض نتنياهو ستاراً كثيفاً وغير طبيعي على خسائره التي بلغت حدود الثلاثين جندياً وضابطاً كل يوم.

 

وعلى ما سبَق، والنتائج المريرة من المواجهات من مسافة صاروخ ومن المسافة صفر، وتزايُد الكمائن الضاربة، راح وزير الحرب اليهودي، بعد إشباع نزعاته الدموية في الجنوب والبقاع والضاحية، ومرور شهر من دون إنجاز (غير التدمير الأعشى)، يتحدّث عن أن «القوة» لا تحل كل المشاكل، وهناك «ثمن باهظ ندفعه في الشمال» و«الخطر الأكبر يكمن في لبنان» ويتكلّم بضرورة الوصول إلى تسوية في غزة ولبنان. وما وصله الجيش الإسرائيلي من أطراف البلدات الجنوبية المحاذية تماماً لأراضي فلسطين المحتلة، دمّره بالكامل و«صوّره» بأسلوب استعراضي يريد أن يصرف نظَر شعب إسرائيل وإعلام العالَم عن فشله في احتلال ولو قرية واحدة من جنوب لبنان.

هذا هو الفارق الجوهري والعميق الذي يتعيّن على المراقب المستقل عن الأهواء أو الاستعجال أن يراه بعين جامدة وثاقبة. فلو أن نتنياهو تمكّن من اختراق حدود لبنان ووصل إلى كيلومتر واحد هل كان سيوقفه شيء عن التمدد ما استطاع؟ ولو أنه غزا مجموعة من القرى والبلدات هل كانت آراؤه ستلتزم القرار ١٧٠١ أم أن نتَعاتِه الطاووسية ستدفعه إلى فرض شروط تعجيزية؟ وأين هو الآن من الأهداف الهمايونية التي وضعها أمام شعبه والعالَم لشرق أوسط جديد تقوده إسرائيل ولإنهاء المقاومة وبيئة المقاومة ومناطق المقاومة في لبنان وغزّة، وقد فعلَ ما يستطيع فِعلَه أصلاً بحكم تفوّقه الجوي تدميراً وتهجيراً ووحشية. صحيح أن هذا خطير وكبير وهائل في أرزاق الناس وبيوتهم وأملاكهم، لكنّ عدم دخول إسرائيل الأرض ولو بأمتار هزيلة هزّأَ جيشها ومقاتليها وفرض على أركان حربها كلّهم التصريح بصعوبة القتال، ما دفع نتنياهو (متذاكياً حتى الخامس من تشرين الثاني موعد الانتخابات الأميركية) إلى القبول وعدم القبول في آن واحد بمباحثات وقف النار مترافقاً مع التهديم البربري، لإطفاء نار الفشل القاهر الذي أنذرهُ بهزيمة قد تكون كاسحة يتكبدها جيشه المُضَعضَع المعنويات على تراب الجنوب!

أكرر السؤال بكل تبصُّر وتفَكُّر: هل كان المؤرخون للحروب في العالم كله لينعتوا حرب حزيران بـ«هزيمة حزيران٦٧» لو دافعت الجيوش العربية المصرية والسورية والأردنية عن أراضيها ببسالة وإقدام وبطولة وحالت دون دخول الجيش الإسرائيلي إلى أراضيها؟ أكرّر: طبعاً لا…

هذا المنطق هو الذي ينبغي أن يُناقَش. يتبعُه سؤال آخر: هل يتجرّأ نتنياهو أن يعلن الانتصار على لبنان (مع التذكير بأهدافه الفضفاضة) وجيشه مكلوم على الحدود المتاخمة ولم يخْطُ خطوة مُعتَبَرة فيه على الأرض؟ وغزّة لا تزال تقاوم باللحم الحيّ؟

طبعاً لا، إلّا إذا كان يريد إحصاء المباني التي سوّاها بالتراب ليكون المَشهد مرعباً للناظرين تبعاً لمقولته «ما لم تُحقّقه بالتدمير تستطيع تحقيقه بالمزيد من التدمير»، ورغب كالعادة في ممارسة الاستعراض الذي يردد فيه طموحاته المعلنة للحرب والساقطة في الجُبّ وفي أسفل سافلين.

أمّا الذين يسابقون العدوّ في تمنياتهم بالقول إن المقاومة انتهت، فأربعة آلاف شهيد من المقاومة وعشرة آلاف مواطن في الجنوب والبقاع والضاحية، وراءهم مئة ألف مقاتل، والملايين من البيئة الداعمة. ومع أن خسارة البشر لا تعوّض فإن ما سيعوّض الضحايا والشهداء أنه لن تحكمنا إسرائيل في متر أرض، ولن تعود إلى حيث قتلَت وعذّبت عشرات الآلاف من المواطنين الجنوبيين في اجتياحها اللعين السابق، بعذاب يوميّ كانت هي و«جيش لحد» يتفنّنان في أساليبه الشيطانية. والأجدى لمن قرأوا التاريخ أن يعيدوا قراءته جيداً، ولا يفسّروه على أذواقهم، وأن يُخضِعوا أفكارهم ومعلوماتهم لميزان الواقع وإرادة التحرّر، لا لمزاج يتقلّب «على جمر النار» كما تقول أغنية أم كلثوم .. تمهيداً للقول «هُزمنا»، فيضربون ساعتها كفّاً بكَفّ ويلطمون حسرةً على العروبة مرةً، وعلى الإسلام مرّتين، ويدعون إلى القبول بشرقٍ أوسط جديد على طريقة العدوّ، مقتنعين أنه أصبح أرحم وأقرب إلى الاندماج فينا من قبل!