المشهد اللبناني، منذ بداية القرن الماضي، يجعل المرء يندهش من كثرة التناقضات التي عرفها، دون أن تؤثر على كينونته. فظلّت البلاد صامدة في وجه الأعاصير، التي كانت تهبّ عليها، بين الفينة والفينة، وبدل أن تجعلها تتهاوى، نراها تفاجئ الباحثين جميعا بصمودها المدهش، فلا تتداعى، ولا تتآكل، ولا تنهار، حتى ليقول القائل: إن سرّها فيها.
فما من إمبراطورية ظهرت في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، إلّا جرّبت حظها، في محاصرة لبنان، وفي تطويع أهله، وفي إعمال معاول الهدم في البلاد كلها. ثم تغادر الامبراطوريات، وربما تتحطم وتندثر، ويظل لبنان شامخا فوق جراحه، يكابد الآلام، غير أنه سرعان ما يشفى ويتعافى، وتعود الحياة إلى ربوعه من جديد، وتسرع دوراتها على طريق النمو والإزدهار.
وطيلة القرن الماضي، نال لبنان نصيبه من كافة أنواع الحروب: من الحروب العالمية، إلى الحروب الإقليمية، ومن الحروب ذات الطابع الطائفي، إلى الحروب ذات الطابع الوطني، وذات الطابع الثوري. وكانت أشدّ الحروب وقعا عليه، تلك التي تمسّ بنيته وكيانه، وتمسّ بالتالي هويته الوطنية، أو تلك التي تقع على حدوده، حيث الطامعون به، وحيث المتربصون بشعبه وبأرضه. وكانت أشدّ هذه الحروب وأقساها، هي الحرب الإسرائيلية، التي ما إنفكت تحاول النيل من أرضه، ومن إرادة الصمود عند شعبه.
فمنذ ظهور الكيان الإسرائيلي، وإغتصاب فلسطين في عام النكبة – 1948، دخل لبنان معركة المواجهة، ومعركة المجابهة، ومعركة الوجود. وصار يشعر يوما بعد يوم، وبُعيد كل حرب، وبُعيد كل معركة، أنه مستهدف، وأن الإسرائيليين، لا ينفكون يضعون الخطط، الواحدة تلك الأخرى، لإقتطاع الأراضي، وتهجّر الناس، وهدم القرى، حتى باتت حروبهم على لبنان، خلال قرن من الزمان، لا تُعدّ ولا تحصى. غير أن أخطر الحروب الإسرائيلية، التي وقعت عليه مؤخرا، تلك التي عرفت بحرب الـ66 يوما وقد إبتدأها بيوم البايجر، في السابع عشر من شهر أيلول 2024، حيث فجّر تلك الأجهزة بيد من كانت بحوزتهم، دون أن يحسب حسابا، لعائلات من يحملها، ولا للأطفال الذين حولهم، ولا للناس في المحال والأسواق، فكانت تلك جريمة موصوفة ضد الإنسانية.
ومساء اليوم المشؤوم الواقع فيه 27 أيلول 2024، وجّهت إسرائيل ضربتها الشنعاء، بنحو 80 طنا من المتفجرات في قلب حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، وغدرت بالأمين العام لحزب لله، سماحة السيد، الشهيد حسن نصرلله وصحبه. وأحالت مقرّات الحزب ركاما على رؤوس أهلها. وهو عمل لم يجرِ مثله في تاريخ الحروب، مما شكّل بذلك سابقة خطيرة، دون أن تراعي المجتمع الأهلي الذي يحيط بهذه المقرات وبهذه المكاتب. وكانت هذة العملية، أشدّ إيلاما من جميع العمليات الإسرائيلية الدنيئة التي عرفها لبنان سابقا، مستعملة أخطر أنواع الأسلحة، غير المسموح بها دوليا، والتي تذيب الأجساد وتبخّرها. وكانت تلك الواقعة التي لم تشهد مثلها الأمة في خطورتها، نذير شؤم على سكان الضاحية الجنوبية، وعلى سكان القرى الحدودية مع العدو الإسرائيلي، وعلى جميع قادة حزب لله والجمهور العام من النازحين من بيئاتهم إلى أية بيئات أخرى، قصدوها، أو توجهوا إليها.
وخلال 66 يوما، كان العدو الإسرائيلي، يأخذ في هدم الضاحية، وفي إنذار أهلها بالإخلاء الفوري. ثم يُغير عليها بالقنابل المحظورة دوليا، بحيث كان يحيلها إلى أبنية مهدّمة ومحروقة، وغير صالحة للسكن لما أفرغ فيها من شحنات السموم. حتى فرغت ضواحي بيروت جميعا، وخصوصا الضاحية الجنوبية منها، من الأهالي والسكان. وصارت تتابعهم حيث يتوجهون، فتوجه ضرباتها الرعناء الغادرة، في بيروت والجبل والشمال، وعلى الحدود السورية. فتقطع الأوصال في البلاد وتعمّق الجراح، بحيث لا يعود هناك مأمن لشرورها.
أما في الجنوب، فقد أخذت إسرائيل في هدم القرى، دون أن تحسب حسابا للرأي العام وللمجتمع الدولي. ويتحدث الإعلاميون عن أكثر من خمسين قرية هدّمت بالكامل، بل أُزيلت من الوجود. وصارت تضع المتفجرات في الأبنية، التي تنسحب منها، أو تزرع فيها القنابل، تماما كما تعوّدت أن تفعل في البساتين والحقول والكروم.. التي أحالتها إسرائيل إلى أرض محروقة لا تصلح للعيش ولا للزراعة. وقد عدّ المراقبون هذه الحرب ذات الـ66 يوما الأخيرة، أقذر الحروب الإسرائيلية التي ضربت لبنان منذ عقود.
وإذا كان وقف النار، مطلبا اللبنانيين عموما، بسبب عدم التكافؤ في السلاح النوعي وفي استعمال الطيران الحربي، وأخطر أنواع المسيّرات والقنابل والصواريخ وأقذرها، فإنه لمن الضروري الإنتباه إلى ما تركته هذه الحرب من آثار مدمّرة في البيئة وفي المجتمع وفي الأبنية وفي الأرض، وفي الحقول والكروم، وفي النفوس أيضا. ويجب على الجمعيات المعنية بالمسح، أن تفتح لهذة الآثار المادية والجسدية والنفسية المدمّرة، ملفا خاصا بها، لمقاضاة إسرائيل وتحميلها تلك الخسائر، لأنها من نوع الجرائم ضد الإنسانية.
إن متابعة إسرائيل بجرائمها التي اقترفتها، وهي بمعظمها جرائم حرب ضد الإنسانية، يمكن أن تحوّلها أمام القضاء الدولي، وأمام محكمة العدل الدولية، وأمام جميع أنواع المحاكم الدولية. لأن ما اقترفته، طيلة الـ66 يوما من جرائم، لم يشهده لبنان في تاريخه، لا في القديم منه، ولا في الحديث من الحروب التي لم تبلغ الويلات والنكبات عليه مبلغها.
إن تسليط الأضواء على الجرائم الإسرائيلية، إنطلاقا من عملية البيجر، وهدم الأبنية على رؤوس ساكينيها بالجملة، وإصابة الآلاف من الناس بلا تمييز: قتلا وتشويها. بالإضافة إلى الخسائر الهائلة التي تكبّدوها، والتي حوّلتهم بين ليلة وضحاها، إلى جموع من النازحين على الأرصفة، وإلى جموع من المنكوبين، حيث كانوا من بين الأهداف التي صودف وجودهم قربها، فإن ذلك كله يجب على من يقوم بالمسح والإحصاء، أن لا يهمل هذا النوع من الجرائم التي عمّقت الجراح اللبنانية، وتركت آثارها الفجائعية، ليس في المناطق المنكوبة في الجنوب وفي الضاحية وحسب، بل على مساحة البلاد بمجملها.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية