عام 1989، كان عمري 9 سنوات، ولم أكن أعرف حينها إسم العدو ولا إسم الصديق، كنت قد حفظت فقط أزيز الرصاص وصفير القذائف والقنابل، واعتدت على صوت عويل النساء وصراخ الرجال، وتمرّنت على الركض مع هذه الأصوات للاختباء… هذا مبدئياً كل ما كنت أعرفه في وقتها، فلا شيء كان أهم من الخوف ولا شيء مقدّساً أكثر من الاحتماء تحت الدرج أو في حمام صغير أو كوريدور وسط البيت، وعندما كانت تشتدّ المعارك كنّا ننزل بالمئات إلى مستودع إحدى البنايات في المنطقة، وكنّا نسمّيه الملجأ.
في ذلك اليوم، كان قد مرّ حوالى 15 يوماً صعبة للغاية، ونحن لم نغادر الملجأ ثانية واحدة. 15 يوماً لم نر فيها ضوء النهار، كنا نعيش مع الجرذان ووسط رائحة رطوبة نتنة للغاية، مكدّسين فوق بعضنا البعض ونفترش الأرض الباردة، وكل شخصين أو ثلاثة يلتحفون بـ»حرام» بنّي خشن يسبّب الحساسية. كان مرحاضنا عبارة عن سطل أحمر صغير موضوع في إحدى الزوايا التي تعبق برائحة البول والبراز، ومغطّى بقطعة خشب دائرية، وكان يتمّ تفريغه كلّما سمح وقف إطلاق النار بذلك. لا أذكر أبداً أطباقاً وشوَك وملاعق، ولا حتى طناجر أكل ساخن، بل كان أكلنا، متى يتوفّر، علب خضراء مملوءة بلحمة تشبه أكل الكلاب، وقوالب جبنة صفراء محنّطة، وخبزاً مات كثيرون من جيراننا في الملجأ أثناء مخاطرتهم بالخروج لجلبه لنا. وفي آخر ثلاثة أيام، اشتدّ القصف كثيراً وانقطعنا بشكل نهائي عن العالم الخارجي، الذي لم نعرف عنه سوى صوت الانفجارات. وكانت المرحلة صعبة لدرجة أنّ والدتي كانت تضع تحت وسادتها رغيف خبز يابساً تنام عليه حتى لا يسرقه أحد.. أطعمتنا والدتي انا وأخي رغيفاً واحداً على مدى ثلاثة أيام حتى لا نموت من الجوع.
من بعدها أُعلن وقف لإطلاق النار، خرجنا من الملجأ وأتت سيارة «رونو 5» رمادية أقلّتنا نحن الثلاثة إلى منطقة سن الفيل، حيث مشينا فوق ركام البلكونات المهدّمة والجدران المحطّمة، وبحذر بين ألغام خضراء كبيرة وضعت داخل إطارات سيارات، حتى وصلنا إلى مستديرة الصالومي، ومن هناك أخذتنا سيارة ثانية إلى مرفأ جونية، حيث انتظرنا حتى المساء، وصعدنا على متن قارب صيد أزرق مكتظّ، يبحر في الظلام من دون إنارة أي مصباح، ومنع تام لإشعال حتى سيجارة حتى لا تلمحنا مرابض المدفعية فيتمّ قصفنا. أوصلنا المركب إلى أحد الشواطئ، وفي الصباح مشينا لا أعرف كم كيلومتر أو كم ساعة، ولكنني كنت أحمل شنطة سفر كحلية، أجرّها أحياناً وأرفعها فوق رأسي أحياناً للاحتماء من المطر الغزير، وأتبع والدتي التي تحمل أخي الصغير وأكياساً وشنطاً وخوفاً لا يوصف علينا، ويرافقنا نازحون بالمئات بين معبري البربارة والمدفون، للوصول إلى أي مكان بعيد من الجوع والقلق والخوف والرطوبة وضجيج القصف الذي يهزّ العظام… نعم، لقد كنّا نحن في أحد الأيام، تماماً مثل هؤلاء النازحين الذين نسمع عنهم في الأخبار ونشاهد مآسيهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
إنّها الحرب أيها الأغبياء، الحرب التي انتهت ولم نعرف من فاز فيها ومن خسر. إنّها الحرب التي أفقدتنا طفولتنا وسلامنا وأمننا، وأخذت منّا أعماماً وأخوالاً وعمّات وخالات وجيراناً وأصحاباً، أو سرقت من أحبائنا رِجلاً أو يداً أو عيناً، أو أقعدتهم لمدى الحياة. إنّها الحرب التي لم يخسر فيها أحد من الزعماء، بل ازدادت ثرواتهم وكبرت قصورهم وتحت شرفاتهم قطعانهم العمياء والصمّاء.. إنّها الحرب التي خسر فيها فقط الأطفال والعائلات والأبرياء والخائفون. إنّها الحرب التي ربح فيها فقط أمراؤها، أما المقاتلون فبعد أن سلّموا أسلحتهم اكتشفوا أنّهم باتوا عاطلين من العمل، ولا يملكون شهادات أو صنعة حتى يتوّظفوا ويعيشوا بكرامة، وغالبيتهم اليوم فقراء أو مسجونون أو لاجئون أو مهاجرون.
إنّها الحرب أيّها الأغبياء التي لم يتحقّق فيها شيء، لم يتحقّق فيها أي مكسب سوى دموع الأرامل والأمهات على أزواجهنّ وأولادهنّ.
إنّها الحرب أيها الأغبياء التي لا يريد عودتها سوى الأغبياء، على وقع خطابات المجرمين، وتحت رايات السفّاحين، وبأسلحة تجّار الدمّ والدين.