كان اللبنانيّون يقولون متعوّذين من سيرة الحرب الأهليّة التي عاشوا ويلاتها «تنذكر ما تنعاد»، اليوم اللبنانيّون باتوا متأكّدين من أنّها ستعاد وتعاد وتعاد إلى ما لا نهاية، كلّ قرن أو نصف قرن أو أقل من ذلك، لم يعد التنازع السياسي الدائم والمماحكات اليوميّة ولا حتّى فولكلور تبادل المحبّة والأخوّة في الوطن والعيش المشترك ينطلي عليهم أبداً، لم يعد لبنان بالنسبة لهم واقعاً يختصره توصيف «النّار تحت الرّماد»، ليس ناراً ولا رماداً، إنّها حرب حقيقيّة جاهزة للاندلاع في أيّ وقت متى استدعت الأمور اندلاعها، ومداراتها تحت الرّماد مجرّد ذرّ للرّماد في عيون هذه الحقيقة!
لا تحتاج واقعيّة أن «حرب أهلية جديدة تحت الرّماد»إلى كثير برهنة ، حتى الوباء الذي يحتاج العالم عن بكرة أبيه دخل لبنان بانقسام حاد تراشقنا إلى أبعد الحدود عن كيفيّة دخوله إلى لبنان، نظرة على مواقع التواصل الإلكتروني تؤكّد أنّ الجيوش جاهزة لاندلاع الحرب لكنّها ما تزال حتى اللحظة إفتراضية عندما يحين ستصبح واقعيّة نظرة على فبركة فيديو لمنتحل صفة طبيب وما نشب حولها من تراشق تفضح واقعنا الذي لا يحتاج بالأساس إلى فضيحة!
لا نستطيع أن ندّعي كلبنانيين أن دورنا في لعبة الحرب مجرّد ضحايا، على العكس نحن كشعوب بطوائفها ومذاهبها متورطة حتى النهاية في التماهي مع هذه اللعبة نحن الأداة ونحن الوقود ونحن الضحايا، أحياناً تتداعى علينا صور الحرب حتى من قبل اندلاعها، من تاريخ استقلال لبنان ، دمية المنطقة التي تفصّل المنطقة بعد اكتمال الصورة التي سيتمظهر فيها لبنان، منذ العام 1920، منذ العام 1943، منذ العام 1958، منذ العام 1969، منذ العام 1975 وحتى هذا اليوم، في هذه اللحظة المفصليّة التي نتحفّظ جميعاً على ما يخطط للبنان المالي والاقتصادي فيها ما الذي سيفعل بودائع الناس بالمليارات التي هُرّبت، كلّ ما يحدث يستدعي أن نخاف وأن نفهم أنّه ما أشبه يوم لبنان المصرفي بأمسه مع إفلاس بنك أنترا الذي يعتبر كثيرون أنّه كان إشارة أولى، ألم ينهب بنك دي روما عشية اندلاع الحرب الأهليّة!!
جيلي دهمته الحرب وهو يقفل أبواب السنوات العشر الأولى من عمره، ولم تفارقه حتّى اليوم خيالات نشوبها من جديد، أذكر صفير القذيفة الأولى، وصوت انفجارها، وأيّ بيت أصابت، أما ضحاياها فكانوا طلبة مصريين يدرسون في جامعة بيروت العربيّة، أذكر المجزرة الأولى وقتلى من النساء والأطفال ينتظرون رغيف الخبز أمام فرن كان يعرف بـ»فرن تلّة دار الأيتام» في الطريق الجديدة، كان يوم ذعر حقيقي، والأغنيات من إذاعة لبنان الوحيدة يومها في لبنان، محمّد جمال يرندح: «على ذُرى لبناننا الخصيب»، ووديع الصافي يغنّي: «وصلت على لبنان.. هالـ علّم الإنسان حبّ وعطا وإيمان»، خوف أهلنا شغلهم عن إدراك حجم السواد الذي يكتنف دواخلنا، لم يكونوا ليلاموا، فقد تحولوا إلى هررة يفرّون بنا من مكان إلى آخر علهم ينجون بأرواحنا من موت عبثي…
وأذكر أيضاً كلّ المجازر اللاحقة، كيف يحتمل عقل إنسان أن يعايش كلّ هذه المجازر، اليوم تحديداً، في ذكرى 13 نيسان أودّ أن أخاطب جيلاً لا يعرف الحرب اللبنانية، لأنه لا يقرأ، ولا يريد أن يقرأ، ولا يعرف حتّى أنّ معظم أسماء اللاعبين والوجوه التي يشاهدونها خصوصاً الوسطاء خطّت لنا شقاء سنوات عمر انتبهنا متأخراً أننا لم نعشه، وهؤلاء وإن تغيّر خطاب بنادقهم التي اعتادت الانتقال من كتف الخاسر إلى كتف الرابح لضمان استمرار وجودها السياسي،وهم اللاعبون والشهود والمستمرون في المقامرة بحياة الشعب اللبناني… على وجه الحقيقة؛ نحن نعيش تكاذباً طويلاً، لم نصارح بعضنا بعضاً كلبنانيين، نحن مجموعة طوائف تخاف من بعضها ويحفل تراث كلّ طائفة بأمثال عن الطوائف الأخرى، وأحياناً تتآمر على بعضها، وأحياناً على نفسها، وكلما استقوت طائفة سعت لسحق الطوائف الأخرى، وحزب الله وبيئته الحاضنة دليل واضح على ذلك.