Site icon IMLebanon

الحرب وأيديولوجية الهزيمة

 

 

«لستَ مهزوماً ما دمت تُقاوم»مهدي عامل، أثناء حصار بيروت عام 1982

 

كانت هزيمة الـ 67 ساحقة ماحقة. وجّه العدو الإسرائيلي ضربة استباقية قضت على مقدّرات سلاح الجو المصري تبِعها غزو خاطف أدّى – في أقلّ من أسبوع – إلى احتلال ما تبقّى من فلسطين التاريخية (غزة والضفة الغربية)، إضافة إلى الجولان السوري وشبه جزيرة سيناء. مع ذلك، لم يُجمع مثقّفو اليسار العربي، وكانوا حينها في صدارة صناعة الرأي العام، على توصيف ما حدث. تبنّى بعضُهم مثل صادق جلال العظم لازمة الجلد الذاتي (تحت شعار النقد الذاتي). استحضر العظم مقولات استشراقية عن أسباب الهزيمة حول الشخصية العربية «الفهلوية» وطغيان الروابط العشائرية والقبلية والعائلية على «العقلية العربية» ولو أنّ قسماً من نقد العظم تناول أبعاد البحث العلمي والقدرات التصنيعية والتخطيط العسكري الجديرة بالنقاش. وقد جارى ياسين الحافظ العظم في بعض مقولاته الاستشراقية حول «شطارة» الشخصية العربية، ولو أنه أقام وزناً أكبر لدور التجزئة العربية وغيرها من العناصر البنيوية في صنع الهزيمة.

في المقابل، سارعت أقلام يسارية أخرى مثل حسين مروة وغسان كنفاني ومهدي عامل إلى التحذير من هذه المقاربة. شدّد هؤلاء على أنّ الهزيمة كانت في المقام الأول هزيمة عسكرية وليست ثقافية أو حضارية، وأنّ العنصر العربي المقاتل ليس أقل شأناً من خصمه الصهيوني، بل لعله أشد بأساً في حال توافرت له السبل المادية والقيادة الحكيمة، واعتبر هؤلاء أنّ الهزيمة جزء من أزمة البرجوازية العربية (النُخب في لغة اليوم)، وليست أزمة الثقافة العربية.

على الصعيد السياسي، أسهمت المراجعة الشاملة التي قام بها عبد الناصر بعد المعركة إلى الحؤول دون تحويل نكسة الـ67 – على فداحتها – إلى هزيمة مطلقة. قام عبد الناصر بإعادة ترتيب صفوف الجيش وتنصيب قادة ميدانيين أكفاء؛ وأعلن شعار «تصفية آثار العدوان» كإستراتيجية مرحلية – سخر منها بعض المزايدين – وفتح حرب استنزاف مع العدو، إضافة إلى توسيع نطاق الكفاح المسلح الفلسطيني. بعد وفاة عبد الناصر، كاد عبور القناة عام 1973 وإلحاق الهزيمة الميدانية للجيش الإسرائيلي يمحوان الآثار المعنوية لعدوان الـ67 لولا الخيانة السياسية على يد أنور السادات، والتي تُوّجت باتفاق كامب دايفيد. في العقود التي تلت، استكمل المثقفون الليبراليون العرب مهمة تكريس أيديولوجية الهزيمة مرة بحجة نقد الأنظمة الديكتاتورية ومرة بحجة الواقعية ومرة بحجة التخلّف الحضاري.

صوت الأيديولوجية المهزومة يعلو قبل أن تنتهي الحرب، ومن دون أن يربحها العدو في أيّ من الجبهات. ومن يتبنى هذه الأيديولوجية هو مهزوم والنقاش معه لا جدوى منه

 

بكلام آخر، إنّ صورة الهزيمة المطلقة التي ترسّخت في عقول ملايين العرب حول نكسة الـ 67 ليست وليدة الحدث التاريخي وحده. إنّها نتاج ما تلاه من خيانة سياسية ومن تأطير أيديولوجي للهزيمة بما يتناسب مع المشروع السياسي الانهزامي الذي تبنّاه السادات، وتحوّل مع الزمن إلى سياسة غالبية الحكّام العرب. فالهزيمة العسكرية لا يمكن أن تكتمل من دون الإذعان السياسي. لم تكتمل مفاعيل هزيمة الـ67 إلا مع توقيع اتفاقيات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع. ولم تكتمل النكبة عام الـ48 لولا قبول الأنظمة العربية في دول المواجهة بتوقيع اتفاقيات الهدنة وعزوفهم عن المقاومة، وما عناه ذلك من استحالة عودة اللاجئين. ولم يكن ليكتمل انتصار العدو على المقاومة الفلسطينية بعد أكثر من عقدين على هزيمة الـ67، رغم النفي المتجدد لقوى المقاومة المسلّحة من فلسطين إلى الأردن فلبنان فتونس، لولا اتفاقياتا الذل في أوسلو ووادي عربة اللتان شرعنتا الكيان وقضتا على المقاومة المسلحة كنهج قبل أن تنهياها كممارسة.

في المقابل، كان اجتياح لبنان عام 1982 ناجزاً لولا إلغاء اتفاقية 17 أيار، واستمرار العمل المقاوم حتى التحرير عام 2000. وكانت حركة حماس نادي انتشار أممي بدلاً من حركة انصهار شعبي، لو لم يُصرّ قادتها على العودة إلى أرض فلسطين بعد نفيهم إلى مرج الزهور عام 1992. قِس على ذلك تجارب تاريخية من فيتنام إلى الجزائر إلى كوبا، لعبت فيها ردود الفعل على الهزيمة دوراً محورياً في رسم الحد الفاصل بين تثبيت الهزيمة أو تثبيطها.

تواجه قوى المقاومة اليوم موجة عاتية من الحرب النفسية التي تروّج لأيديولوجية الهزيمة بأشكال مختلفة، تتناسب مع روح العصر التكنولوجية وطبيعة حرب الإبادة والتي تسعى إلى تدمير بنية المجتمع المقاوم بأكمله. وقد وصلت هذه الموجة في لبنان إلى أعلى المستويات في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة الهجمات الإسرائيلية الناجحة على بنية القيادة العسكرية وشبكة الاتصالات اللاسلكية لحزب الله. لا شك في أن هذه الضربات طرحت أسئلة مشروعة حول مستوى الخروقات الأمنية ومصدرها ووتيرة الاغتيالات والفشل في تجنّبها. لكن القلق النابع من الحرص على المقاومة تبلور عند المناصرين غير الملمين ببواطن الأمور عبر سؤال مُلحّ وواضح: هل ستؤثّر هذه الضربات في الميدان، أي على القدرات القيادية والعملياتية للمقاومة في سبيل منع العدو من تحقيق أهدافه؟

أما التشكيك في قدرات المقاومة من باب الانهزامية، فقد جاء بلبوس أوسع حول جدوى الحرب من أساسها، وضرورة الإذعان للشروط الإسرائيلية قبل فوات الأوان، والحاجة إلى فكّ الارتباط عن غزة. كان يمكن لأنصار هذا الخط إجراء تحليل موضوعي ومطلوب حول تبعات التدخل السوري في انكشاف الحزب ومدى عمق الخرق وامتداده داخل بنيته. وسبب تباطؤ الردّ الإيراني وارتباطه بالتناقضات الداخلية في إيران أو حسابات موازين القوى العسكرية ونسبة الخرق التكنولوجي مقابل الخرق البشري (وهي أسئلة لا أجوبة وافية عنها حتى الآن) وكذلك فهم أسباب حصول اجتماعات لقادة المقاومة قد تهدّد أمنهم. لكن أيديولوجية الهزيمة تجسّدت في حملات شماتة وتشفٍّ بمجاهدي الحزب، واستعادة ممجوجة لدور الحزب في سوريا وتخوين لإيران التي «باعت» حليفها الأقوى، وكأنّ نهاية الحزب باتت تحصيل حاصل.

المطلوب جهد إعلامي حثيث لا يقتصر على ترداد شعارات النصر المحتّم وتسفيه الخصم، وأفضل رد على أيديولوجية الهزيمة هو التمسك بأيديولوجية المقاومة وهي أيديولوجية الانتصار للحق

 

إن كانت هذه المقاربة مكشوفة في عدائها للمقاومة، فقد ترافقت مع حملات أكثر خبثاً وانتهازية هدفها ضرب البيئة الاجتماعية الداعمة للمقاومة، وهو هدف أساسي نظراً إلى مركزية هذه البيئة في صمود المقاومة على المدى الطويل. تبنّت المكنة الإعلامية المنخرطة في هذه الجهود لغة التهجير بدلاً من النزوح، والتهويل بدلاً من التهدئة، والإمعان في تصوير مآسي الناس بما يهين كراماتهم لا بما يهوّن عليهم ويشدّ أزرهم. وقد وصلت المناورات الإعلامية حدّ تبني لغة ظاهرها داعم للمقاومة (كاستخدام مصطلحات «جيش العدو») مقابل ترداد ونشر وتبدية ما يقوله الإعلام الإسرائيلي بشكل ببغائي – بما فيها إنذارات العدو بإخلاء مناطق سكانية أو وجود أسلحة بينها – وقبل التأكد من صحتها.

اللافت اليوم أنّ صوت الأيديولوجية المهزومة يعلو قبل أن تنتهي الحرب التي دامت سنة لا ستة أيّام، ومن دون أن يحسمها العدو لمصلحته في أي من الجبهات. وهي دليل على أنّ من يتبنى هذه الأيديولوجية هو مهزوم قبل الهزيمة ومهزوم بعد النصر، وأنّ النقاش معه لا جدوى منه. تتلاشى هذه الأصوات وتصبح لزوم ما لا يلزم عندما تتحقق الانتصارات في الميدان. الخطورة تكمن في مراحل الانتكاسات حين تصبح الحرب النفسية أكثر فعالية، وخاصة في غياب إجماع وطني بديهي حول خطّ المقاومة، وعدم وجود سياسة إغاثية منظّمة، واستمرار الضخ الإعلامي المعادي المرئي والمسموع والمكتوب.

صدّ هذه الحملات يتطلّب جهداً إعلامياً حثيثاً لا يقتصر على ترداد شعارات النصر المحتّم وتسفيه الخصم واستحضار انتصارات الماضي على أهميّتها، وهو ما يمكن وصفه بأيديولوجية النصر. في حقل الحروب النفسية وفي ظلّ التمويه والتضليل الإعلاميين المهيمنين، لا بدّ من مواجهة الحقائق الميدانية وتظهير انتصارات ونجاحات المقاومة على أرض المعركة من دون التعمية على بعض الإخفاقات لتفادي الصدمات المستقبلية وتناول مخاوف جمهور المقاومة على محمل الجد لتحصينه وتوسيع دائرة التحليل السياسي والنقد الممنهج، لتفنيد الخطاب المتصهين من أجل منع محاولة تمرير الصفقات المعادية لمصلحة المقاومة، وتأكيد حقها في الوجود والاستمرار مهما كانت النتائج. إنّ أفضل رد على أيديولوجية الهزيمة هو التمسك بأيديولوجية المقاومة وهي أيديولوجية الانتصار للحق وليس الالتحاق بالنصر، وإن كان الأخير هو المبتغى والمرتجى مهما طالت الحرب وعظُمت التضحيات.