قد لا تنتهي المفاوضات النووية بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا (5+1) مع نهاية الشهر الجاري، لا سيما أن المسألتين الأساسيتين اللتين تثيران الخلاف لم تتم معالجتهما بعد، وهما: وسائل وعمق التحقق من صدق تعهد طهران بألاّ تصنّع السلاح النووي، وإعادة فرض العقوبات عليها في حال عدم الوفاء بهذا الالتزام. التأخير لا يعني انهيار المفاوضات والأرجح ألاّ تنهار المفاوضات حتى لو طال التأخير لشهور وليس لمجرد أسابيع. والسبب هو أن الرئيس الأميركي باراك أوباما والمرشد الإيراني علي خامنئي مصرّان على اللاانهيار، الأول صيانة لتركته وسمعته كما سيسجلها له التاريخ، والثاني صيانة لنظام حكم منذ 35 سنة يحتاج الآن أكثر ما يحتاج الأموال الضرورية لتعزيزه داخلياً ولتنفيذ مشاريعه الإقليمية. الدول الأخرى المعنية بالمفاوضات، روسيا والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، قد تختلف هنا وهناك حول هذا التفصيل أو ذاك، لكنها مجتمعة في بوتقة واحدة عنوانها: لا مناص من إنجاح المفاوضات مهما كلف ذلك وكيفما كان، لذلك إن هذه الدول المسؤولة عن الأمن والسلم الدوليين واحترام قرارات مجلس الأمن تدفن رؤوسها في الرمال وهي تراقب طهران تنتهك القرار الذي يمنعها من بيع وتصدير السلاح ومن إيفاد مستشارين عسكريين أو مقاتلين خارج حدودها. هذا الواقع يجب أن يوقظ الدول العربية إلى الواقع الجديد في علاقاتها الدولية بما يشمل علاقات هذه الدول مع طهران ونظرتها العملية إلى الدول الخليجية بالذات. فجديد مهم يحدث في إطار التحوّلات السياسية والجغرافية ومن الضروري التحدث عنه بصراحة وبوعي ومن دون انزعاج من النقد.
النظام الأوتوقراطي في طهران ليس الخطر الوحيد على المنطقة العربية وإن كانت طموحاته التوسعية جزءاً من التهديدات لها. لتركيا طموحاتها ووسائلها للتدخل في المنطقة العربية بما يخدم مصالحها أو غايات رئيسها. لإسرائيل سياساتها العنيدة المصرّة على رفض حل الدولتين والإصرار على استمرار الاحتلال وبناء المستوطنات غير الشرعية التي تقوّض قيام دولة فلسطين. «داعش» وأمثاله يفتك بالناس ويدمّر حضارات العرب وهو يدمّر المدن التي تشهد على تلك الحضارات. ثم هناك مسيرة القيادة العربية التي يسجّل التاريخ لبعضها كيف تسخّر الهوس بالسلطة لتحرق أراضيها وتشتت شعوبها. أخطاء البعض الآخر من القيادات العربية مذهلة تدفع ثمنها أجيال الماضي والحاضر والأجيال القادمة أيضاً إذا لم تُصحّح وبسرعة. وأخيراً، وليس آخراً، هناك الدول الكبرى التي لطالما تلاعبت بالمنطقة العربية ووجدت فيها قيادات خصبة للشراكة في التلاعب بالموارد والشعوب العربية.
أزمة الثقة، إذاً، هي داخلية محلية، وإقليمية ودولية. حال المنطقة العربية عنوانه التفتيت والتقسيم والتورط والتوريط في مستنقعات وبرك دماء وخراب.
هناك استثناءات، بالتأكيد. إنما حتى بعض هذه الاستثناءات بدأ ينزلق إلى التورط ويجب عليه التنبه قبل فوات الأوان.
الولايات المتحدة اتخذت قرارها. أبلغت المسؤولين في الدول الخليجية التي اجتمع معها الرئيس باراك أوباما في كامب ديفيد قبل شهر أن توقيع الاتفاقية النووية – وما يترتب عليها من علاقات ثنائية بين أميركا وإيران – بات أمراً محسوماً لا دخل للقيادات العربية به. أبلغتها أن الأفضل لها التعايش مع الأمر الواقع الآتي إذا كانت تريد «الضمانات» التي سعت وراءها من الولايات المتحدة. ضمانات تحت عنوان حماية هذه الدول من العدوان العسكري المباشر ضدها لا غير.
أي، إذا اعتبرت الدول الخليجية أن إيران تعتدي على الأمن القومي السعودي عبر البوابة اليمنية في الخاصرة السعودية، لا يشكل هذا من وجهة نظر واشنطن عدواناً يقع تحت الالتزام بالضمانات الأمنية، بل إن واشنطن تختلف جذرياً في تقويمها للدور الإيراني في اليمن ولا توافق على أنه تطاول إيراني على الأمن القومي السعودي. بغض النظر عن وضوح عزم إدارة أوباما على حماية الاتفاق النووي كأولوية استراتيجية عليا، إن فكر هذه الإدارة لا يتعاطف مع منطق «التحالف العربي» في اليمن الذي يعتبر الحوثيين حليفاً وأداة في أيدي طهران تستهدف السعودية.
لذلك، لن يحصل «التحالف العربي» على مساعدات عسكرية أميركية في اليمن، بغض النظر عما صدر عن الإدارة الأميركية سابقاً من تلميحات. وعليه، أية استراتيجية عسكرية لـ «التحالف العربي» يجب أن تعتمد على الذات وليس على التلميحات الأميركية بأنها جاهزة لتقديم بعض العون العسكري.
وعليه، أمام «التحالف العربي» الاختيار: إما تعزيز عسكري نوعي يتمثل في إنزال بحري لتأمين المدن الأساسية مثل عدن وتعز والحديدة باعتماد كلي على الذات وليس على الولايات المتحدة أو على باكستان، أو الاقتناع بأن استراتيجية الخروج المدروسة والمدعومة بمشروع «مارشال» لليمن تعني عملياً إحباط المشروع الإيراني القائم على توريط دول «التحالف العربي» في مستنقع اليمن.
الفارق مهم بين الفكر العربي والفكر الإيراني العسكري في اليمن كما في سورية والعراق ولبنان. إيران تتبنى استراتيجية الأرض والحليف في الميدان الذي تمده بكل ما يحتاجه، أما السعودية فتتبنى استراتيجية الجو والاعتماد على القبائل بالصورة التقليدية. الحاجة واضحة الآن لضرورة إعادة النظر والتفكير في الضخ والزخم والانخراط والتخلي عن أنصاف الحلول أو الامتناع. وليكن اليمن المحطة الأولى في التغيير النوعي في الفكر الاستراتيجي.
والمقصود هو أن لا خطأ في أي من الخيارين: التصعيد العسكري النوعي بإنزال بحري لتأمين المدن، أو التفاهم مع إيران. فإذا اقتضت المصلحة القومية السعودية التفاهم مع طهران في شأن اليمن أو في إطار تفاهمات إقليمية أوسع، لا خطأ في ذلك على الإطلاق. التفاهم يعني، بطبيعة الحال، تنازلات من الطرفين، ولا عيب في ذلك إذا نتج منه ما هو في المصلحة القومية السعودية وفي المصلحة الوطنية العربية. أي وصف لفكرة التفاهم بأنها انهزام فيه قصر نظر لأن المصلحة العليا يجب أن تعني قائمة الاعتبارات، والقيادات الشجاعة يُعتَرف لها بالإنجازات في نقل الشعوب إلى الأمام، وليس بما يؤدي إلى المزيد من الدمار. والكلام يطاول طهران قبل أي طرف آخر.
يقال إن طهران تريد مقايضة مع الرياض قوامها: دعونا نتصرف في سورية كما نشاء، ونحن ندعكم في خير في اليمن. يقال إن الرياض ترفض تلك المقايضة لأنها ليست مستعدة للتخلي عن سورية العربية لتترك لطهران فرصة بناء ذلك «الهلال الفارسي» الذي يبتلع دولاً عربية – أو أجزاء منها – ويفرض الهيمنة عليها ويختزل الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية.
هناك وجهة نظر في هذا المنطق. وجهة النظر الأخرى تقول: دعوا إيران تتورط في سورية لتكون «فيتنامها» أكثر فأكثر حيث تواجه «دواعش» وحيث لا يمكن لها الهيمنة لأن سيطرتها على سورية مستحيلة. بكلام آخر، اعتمدوا مبدأ «خذ وطالب» في إطار «المقايضة» بين اليمن وسورية. اليمن مهم جداً في الخاصرة السعودية وتأمينه ضروري لها. سورية باتت مشرذمة ولن تتمكن السعودية من إنقاذها حتى من التقسيم بعدما فات الأوان. فلقد دفعت سورية البلد والشعب السوري الثمن ولا أحد بريء مما حصل لسورية. إنما إذا أرادتها إيران بهذا القدر من الاستقتال، فلتحصر ما زرعته في سورية ولتكن سورية «فيتناماً» لها.
مصير العراق أفضل أيضاً لو وقعت تفاهمات إقليمية، بما فيها سعودية – إيرانية، لأن العراق ليس جاهزاً ولا مستعداً للاختيار بين الاثنين. العراق يحتاج السعودية والدول الخليجية الأخرى لتقوم بدور متماسك ومدروس في إطار مساعدته على التعافي من «داعش» الذي انبثق منه ومن استفراد إيران بهزيمة «داعش» على الأرض ميدانياً. فلو حصل، نظرياً، تفاهم خليجي – إيراني في العراق على أسس منطقية وعملية، ربما تم إنقاذ العراق من خطط التقسيم التي تُتهَم إيران برعايتها من أجل تنفيذ خطة «الهلال الفارسي».
كل هذا لا يعني أن إيران جاهزة للتفاهمات، لا سيما أنها على عتبة الدخول شريكاً دولياً في النقلة الجديدة للولايات المتحدة باتجاه الشرق كما أنها مقبلة على احتضانها من الدول الأوروبية والصين وروسيا والهند والبرازيل. فأي كلام عن عزل إيران بات من الماضي. فإما التأقلم مع الواقع الجديد بصورة أو بأخرى، بتفاهمات أو بقطيعة. أو أخذ زمام الأمور ميدانياً وتبني استراتيجية مواجهة تبلغ كل مَن يعنيه الأمر أن هذه حرب غير قابلة للخسارة في اليمن، وهذه معركة مصيرية مع إيران ممتدة من العراق إلى سورية إلى لبنان.
أنصاف الحلول لم تعد مفيدة، وكذلك أنصاف الحروب أينما كان.