ما يحدث أبعد من اللعب بالنّار، وأبعد بكثير من مجرّد اللعب باقتصاد البلد، وأخطر بكثير جداً من أساليب شائعات الطابور الخامس أو العاشر أو الخامس عشر، لبنان ليس عشية العام 1975 لتتكاثر الشائعات كما الجراد، لم ينتبه البعض أننا في زمن «السوشيل ميديا» وأنّ صناعة «القبّة لم تعد محتاجة إلى حبّة»، والنّاس لا ينقصها عبث بأعصابها ومصائرها!
ما نستغربه، هو اكتفاء الحكومة بإغماض عينها عن الواقع الحقيقي الذي ينتظرها، وهي تتعامل مع ردود فعل الشارع اللبناني المصاب بالتوجّس من الخطوات التي يجري تسريبها لمعالجة الوضع الاقتصادي المنهار، ومن المؤسف اعتبار تحركات موظفي بعض القطاعات «مشبوهة»، وكأن المفروض بهؤلاء أن يجلسوا ينتظرون وقوع القضاء الحكومي على رؤوسهم من دون أن يحرّكوا ساكناً! وما هو أسوأ من طريقة تعاطي الحكومة مع هذا الواقع تهديد الموظفين في حال الإضراب، والاكتفاء بمخاطبة كلّ الغاضبين بجملة واحدة «لا بد من اجراءات وان كانت قاسية لانقاذ الوضع الحالي»، أو الحديث عن أنّ «ما يجري تسريبه من معطيات لا أساس لها من الصحة، وهي تسريبات مجتزأة ومضلّلة للرأي العام»، هذا النّوع من الكلام العمومي عن الموازنة، وهو غير مطمئن، بل فيه مسحة «خداع» لا ينفع في هكذا أزمات لأنّ النّاس تحتاج إلى إجابات واضحة ومفصّلة، وهذا ما تعجز الحكومة عن تقديمه حتى الساعة!
هذا الدوران في حلقة مفرغة، و»الكباش» فوق وتحت الطاولة بين الحكومة و»الأشباح» ألم يحن الوقت لكشف وجوه لاعبيه الحقيقيّين، النّاس قلقة وتطرح أسئلة عميقة المخاوف، بالأمس جرى تداول خبر عن لسان «مصدر مصرفي» يروي حكاية مطالبة حزب الله بـ»مليار دولار» لتمويل نفسه من فائدة ديون المصارف، وبصرف النّظر عن صحّة ما يجري تداوله من عدمه، اللعب بأعصاب الناس لم يعد مقبولاً، خصوصاً أن الأجواء تشكل أرضاً خصبة لتضخم حجم الشائعات وبلوغها عنان السماء!
مقدّمات النشرات الإخبارية المسائية كافية لوحدها لتشكيك اللبنانيين بأنّ البركان اللبناني على وشك الانفجار، قد يكون أصدق ما قيل عن توصيف اجتماعات الموازنة وما درسته حتى اليوم هو ما قاله وزير الصناعة وائل أبو فاعور بالأمس «حتى اللحظة لم نلامس القضايا الإصلاحية الجوهرية ومنها رفع الضريبة التصاعدية لـ30 بالمئة على الأغنياء وأصحاب المداخيل الكبيرة»، واختصاره حال النّهب العامّة التي تشهدها البلاد بأنّ «هناك نهباً منظماً في الأملاك البحرية»، فمتى يلتفت أصحاب الشأن إلى المصدر الحقيقي لتأمين مداخيل لخزينة الدولة المفلسة بعيداً عن جيوب المواطنين «المعتّرين»؟!
«البلبلة» أرض خصبة لزعزعة أي دولة، فكيف إذا كان الأمن الاقتصادي والاجتماعي هو الأرض التي يجري العبث فيها، دفن الرؤوس في الرّمال لن يجلب إلا المزيد من البلبلة والشائعات، والنّاس أقرب ما تكون لتصديق هذه الأجواء عندما تجد الحكومات أقرب إلى بثّ كلام عمومي تتهرّب به من تقديم إجابات حقيقيّة عن تساؤلاتها، حتى اللحظة، المصداقية والشفافيّة صفات مفقودة في التعامل بين الحكومات اللبنانية المتعاقبة والشعب اللبناني، وأغلب الظنّ أنّ هذا الواقع مستمرّ ممارسة وعقليّة وعن سابق تصوّر وتصميم!