عن المرتبكين و«المنتصرين» في «جسر الشغور»
سجال الحرب: التوازن الميداني لا يلغي ثوابت سياسية
سقطت «جسر الشغور» في أيدي المجموعات المناوئة للنظام السوري، صُدِم المتتبعون للأحداث السورية من هذا السقوط السريع، الذي بدا أقرب الى «حرب نظيفة»؟
رفع هذا السقوط معنويات المسلحين، هلّلوا لـ «المخلّص» الآتي عبر المثلث السعودي ـ التركي ـ القطري، ونظّروا لهذا السقوط كجزء من الانهيارات المتتالية، وتوعّدوا بمثلها في اللاذقية وريف حمص، تحضيراً لمعركة دمشق الكبرى!
البعض افترضوا أن سقوط «جسر الشغور» قطع شريان حياة النظام السوري وقصم ظهره، وصار على وشك التداعي والانهيار، ووعدوا لبنان بتداعيات كبيرة، وقال بعض الشامتين «على لبنان أن يتحضّر لاستقبال موجات النازحين السوريّين.. وهذه المرة من العلويين تحديدا»!
فوجئ مؤيدو النظام بسقوط «جسر الشغور». ارتبكوا وتجاذبتهم أسئلة قاسية: أين الروس وخطوطهم الحمراء؟ أين الايرانيون، وهل هناك من تواطأ، أو تخاذل، أو قايض، أو باع واشترى؟ أين «حزب الله»؟ وقبلهم جميعا، أين الجيش السوري النظامي؟ هل هناك تراخٍ من قبل العسكر، أو حتى «خيانات»؟
أمام هذا التناقض، تحضر «قراءة هادئة» لمن هم على صلة بالميدان العسكري، تقر بأن سقوط جسر الشغور «نكسة» سببتها مجموعة عوامل: «فتح الباب التركي لآلاف المسلحين، فتحت بيوت المال السعودية والقطرية لتلك المجموعات، سلاح أميركي حديث ظهر في أيدي المجموعات، نجحوا في تحقيق مباغتات، وحققوا اختراقات ميدانية، فرضت إعادة انتشار العسكر..».
ولكن، لأن الحرب سجال، كما تلحظ تلك القراءة، فإن «تلك النكسة ليست نهاية المطاف، بل هي مؤقتة، ولا تعايش معها ولا تسليم باستمرارها، لذلك ما بعد جسر الشغور ليس اللاذقية، أو ريف حمص، كما تروّج المجموعات المسلحة وفضائيات الخليج، بل جسر الشغور».
في خلفية ما حصل في «جسر الشغور»، تسجل تلك القراءة الهادئة هدفين: الأول، محاولة سعودية للظهور في موقع الساعي الى الاستثمار السريع على ما حققته «عاصفة الحزم» في اليمن، وتقريشه سوريًّا بنصر جديد والإيحاء بقرب سقوط الرئيس بشار الأسد، فيما هي في حقيقة الأمر تسعى الى تسجيل نصر ميداني سريع في سوريا مهما كلفها ذلك، يعوّض لها فشلها في اليمن الذي لن تستطيع أن تهرب منه طويلا.
أما الهدف الثاني، فهو محاولة أميركية، من خلال رعاية العمليات العسكرية في «جسر الشغور» وما حولها، لإجبار الرئيس بشار الأسد على الجلوس منكسراً ومهشّماً الى طاولة الحوار، وهذا ما صرّح به وزير الخارجية الأميركية جون كيري قبل فترة قصيرة.
تستحضر تلك القراءة بعضاً من ذاكرة الأزمة السورية، فتلفت الى أن أعداء سوريا، الداخليين والخارجيين، لا يبنون مواقفهم ورهاناتهم على معلومات وواقع ملموس، بل يبنونه على رغبات، وعلى تحليلات مبنية على تلك الرغبات، والأمثلة كثيرة: بدءاً بفشل الرهان في بداية الأزمة أن النظام سيسقط بعد ثلاثة أشهر.. وفشل الرهان على «فرط» الجيش السوري الذي فوجئوا بأنه متماسك أكثر مما كانوا يقدرون.. وفشل الرهان على إسقاط النظام بعد اغتيال خلية الأزمة في تموز 2012، حيث كان الاغتيال «ساعة الصفر» لما سموها «غزوة دمشق»، حشدوا سبعة آلاف مسلح من خلايا كانت مختبئة في دمشق وكذلك من الغوطة الشرقية والغربية، ورغم عنف الضربة تم إحباط تلك الغزوة وفشل الرهان. وثمة أمثلة اخرى على رهانات على انشقاقات واغتيالات وسيارات مفخخة وفشلت كلها.
تشير تلك القراءة الهادئة الى مجموعة قواعد ترسخت ولا تزال قائمة حتى الآن، وخلاصتها أن سوريا تجاوزت مرحلة السقوط وفشل إسقاط النظام وفشل إسقاط الرئيس بشار من النظام ولا توجد معارضة قادرة على ان تكون بديلا من النظام لكي يتكئ عليها الغرب. تلك القواعد لم تتأثر بسقوط «جسر الشغور»، ولا بتقديرات المثلث السعودي التركي القطري بأن نظام الأسد صار على وشك السقوط، بل قد يشكل السقوط حافزا لإعادة تثبيتها من جديد وترسيخها أكثر في الآتي من الأيام.
في خلاصة القراءة أن تلك القواعد أوصلت الأميركيين الى قناعة جازمة بأن لا حل في سوريا إلا الحل السياسي، وقد فرضت النجاحات التي حققها الأسد في الميدان العسكري على الأميركيين أن يعدّلوا موقفهم من «حل سياسي يقوم على بقاء النظام من دون الأسد»، الى «حل سياسي يقوم على بقاء النظام وبقاء الأسد معا». اقتنعوا بأن لا بديل للأسد. «جبهة النصرة» و «داعش»، وسائر المجموعات الإرهابية، في نظر الغرب أسوأ من النظام السوري بالنسبة اليهم. صحيح ان الاميركي يستفيد حاليا من «داعش» و «النصرة» في مقاتلة النظام، لكن يستحيل عليه أن يتعايش معهما أو يقبل بهما بديلا للأسد.
تلحظ تلك القراءة أن سقوط «جسر الشغور» محطة لها ما سيكملها حتماً، وهو لا يعدّل في ميزان الميدان العسكري السوري.. ومن القلمون قد تبدأ حكاية جديدة في الآتي من الأيام.