ليس المقصود إطلاقاً التخفيف والتقليل من مسؤولية اللبنانيين في الحرب اللبنانية، لأنه لولا وجود عوامل داخلية وتربة مهيّئة و»صالحة» لَما اندلعت تلك الحرب، ولكن في الوقت نفسه لا يجب إهمال العناصر الخارجية.
الحرب اللبنانية بدأت بعد هزيمة العرب في العام ١٩٦٧ التي أفسحت في المجال أمام الفلسطينيين لتحقيق ما عجز عنه العرب مجتمعين. فالجذور الأساسية للحرب التي اندلعت في ١٣ نيسان ١٩٧٥ تعود إلى العام ١٩٦٧ مع إطلاق يد الكفاح الفلسطيني المسلّح.
وقد ترافق هذا المعطى الأساسي مع تعاطف إسلامي، وتحديداً سنّي، في لبنان مع الثورة الفلسطينية ربطاً بوجدان هذه الجماعة الذي كان يُبدّي القضايا القومية على المحلية، وكان معطوفاً على تململ من النظام السياسي الذي كان يفتقد إلى المساواة السياسية والعدالة الاجتماعية، ومتزامناً مع صعود اليسار العالمي وسلوكه منحى متطرّفاً للغاية.
وبالتالي، كل هذه العوامل مجتمعة وغيرها ساهمت في انزلاق البلد نحو الحرب تدريجاً. ولكنّ السؤال الذي طرح ويطرح نفسه: هل هذه العوامل كانت كافية لاندلاع الحرب لولا العامل الفلسطيني؟
وفي سياق متصل، لماذا نجح اللبنانيون في إخماد الثورة والثورة المضادة في العام ١٩٥٨ وتطويقهما، وعجزوا عن تطويق الحرب في العام ١٩٧٥؟ فلو انوجَد افتراضاً العامل الفلسطيني نفسه في العام ١٩٥٨، فهل كان أمكن السيطرة على الثورة أم كانت تحوّلت إلى حرب مفتوحة؟
ولماذا نجح اللبنانيون في إبقاء الأمور نسبياً تحت السيطرة بين عامَي ٦٧ و٧١، وبدأوا يفقدونها مع استلام حافظ الأسد رئاسة الجمهورية في العام ١٩٧١؟ وإلى أيّ حد يمكن اعتبار الدور السوري أساسياً في اندلاع هذه الحرب؟
ويمكن القول ببساطة انه لولا انجراف الشارع السني مع الثورة لَما اندلعت الحرب، وهذا صحيح. ولكن في المقابل تحوّل العامل الفلسطيني إلى عامل داخلي في ظل رغبة الدول العربية بإبعاد هذا الهمّ والمسؤولية عنها بعدما حاولت ولم تفلح، وفي ظل موجة تأييد شعبية عربية وإسلامية للثورة الفلسطينية قلّ نظيرها، فضلاً عن غَضّ نظر دولي في سياق حصر هذه الثورة ضمن مساحة جغرافية محددة بدلاً من تعميمها على كل الدول العربية.
وبالتالي، كان من الصعب على الشارع السني أن لا يتفاعل مع هذا التطور المستجِد، خصوصاً أنّ التراكم السني-اللبناني المتصل بتحييد لبنان لم يكن قد اكتمل بعد، وفي غياب قامة استقلالية استثنائية اسمها رياض الصلح، وغياب قامة عربية استثنائية أيضاً اسمها جمال عبد الناصر.
فالثورة الفلسطينية تحولت انطلاقاً من كل ما سبق إلى عامل داخلي ليس فقط على المستوى التضامني، بل أيضاً على المستوى العملي من خلال احتضان الثورة لتحرير فلسطين من لبنان، وهي تختلف عن الثورة السورية التي تجري على الأرض السورية لا اللبنانية، فيما خروج «حزب الله» من لبنان للقتال في سوريا يشكّل سابقة تاريخية.
وحيال كل ما سبق، كان من الصعب تلافي الحرب اللبنانية، خصوصاً مع استراتيجية البعث السوري في وضع يده على لبنان لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، منع الثورة الفلسطينية من وضع يدها على لبنان الذي سيتحوّل إلى حكم سنّي يهدد النظام العلوي السوري، فضلاً عن أنّ نجاح الثورة في بيروت يشكّل عدوى لا بد أن تمتد إلى دمشق بالدرجة الأولى، فكان المطلوب دخول الجيش السوري لضبط الثورة ضمن الجغرافيا اللبنانية وتحويلها إلى ورقة في سياق الاستراتيجية البعثية.
السبب الثاني، حاجة النظام الأقلّوي السوري إلى توسيع دوره الإقليمي لإضفاء الشرعية الداخلية على وجوده عبر الادعاء انه حقق لسوريا ما عجزت الأنظمة المتعاقبة على تحقيقه، والتفرّغ للإمساك بالوَضع السوري الداخلي.
السبب الثالث، الأطماع التاريخية السورية بلبنان وعدم الاعتراف باستقلاله.
وإذا كان يصعب على الشارع السني عدم الانجراف في الموجة الفلسطينية العربية الإسلامية اليسارية التي للحقيقة تتجاوز قدرة أيّ جماعة على التحكّم بانفعالاتها، فإنه كان يصعب أيضاً على المسيحيين ألّا يتصدوا لهذه الموجة.
وخلاف ذلك، كان لبنان تحوّلَ إلى الدولة البديلة التي، للتاريخ، كان للمسيحي الدور الأساس في منع قيامها. ولكن لا بد من السؤال: لَو تجاوَب المسيحيون مع الدعوات لإصلاح النظام السياسي والشراكة السياسية هل كان يمكن تلافي الحرب؟
يصعب الجزم بنعم أم لا، غير انّ العوامل التي تجمّعت كانت تتجاوز مسألة إصلاح النظام إلى دور لبنان في الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث كان يصعب إقناع الشارع السني، في ظل تلك الموجة، بضرورة تحييده، على غرار صعوبة إقناع شيعة «حزب الله» اليوم بتحييد لبنان.
ويبقى أنّه من سخريات القدر أنّ السنّة والدروز، وبفِعل العوامل التي تمّ ذكرها، أسقطا جمهورية العام ١٩٤٣ وفتحا الطريق أمام الوصاية السورية التي اغتالت الشهيد كمال جنبلاط، ومن ثم الشهيد رفيق الحريري، قبل أن يدخلا والمارونية السياسية في تحالف تحت ثلاثة عناوين: رفض أيّ وصاية خارجية، تحييد لبنان تحت مسمّى «لبنان أوّلاً»، وحصرية السلاح داخل الدولة.
ولا بد من التذكير أنّ المسيحيين والدروز نجحوا بتجاوز ثلاثة حروب بينهما في الأعوام ١٨٤١ و١٨٦٠ و١٩٨٣، كما نجح المسيحيون والسنّة أيضاً في التوافق على لبنان الكبير والاستقلال والميثاق وتجاوز ثورة ١٩٥٨ والتقاطع في اتفاق «الطائف» وانتفاضة الاستقلال، ما يعني أنّ ما كان ممكناً مع المسيحيين والسنة والدروز سيكون ممكناً أيضاً مع الشيعة بعد زوال الظروف المتصلة بالمشروع الإقليمي لإيران، ما يعني أيضاً أنّ لبنان قابل للحياة.
وإذا كان من عبرة يفترض استخلاصها لتجنّب الحرب، فهي عدم الخروج عن الدولة، والتمسّك بحصرية السلاح داخلها، وتحييد لبنان انسجاماً مع تعدديته، والأخذ في الاعتبار هواجس أيّ جماعة، واستبعاد منطق الهيمنة والاستقواء، وإعلاء شأن التوافق السياسي لا الصلاحيات التي تتعطّل في الأزمات، والاتفاق على ضرورة إنجاح التجربة اللبنانية بالعمل على تعزيز ثقافة السلام والحرية والديموقراطية.