لم تهدأ بعد عاصفة السجال العلني بين مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. وقد دخل الوزير جبران باسيل على خطها أمس للمرة الأولى من خلال المجاهرة بما كان يقوله في الغرف المغلقة موجِّها رسائل غير مباشرة الى عثمان بحديثه عن «ضابطة عدلية، يجب مواجهتها، تتولّى الترخيص فوق الوزارة وفوق الإدارة، من حفر آبار وحماية كسارة ومرملة وتتباهى بتوقيع إعطاء رخص»!
إنتظر جرمانوس انقضاءَ المهلة التي منحها للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لتردّ عليه بعد توجيه كتابين الى قائد الدرك العميد مروان سليلاتي ثمّ الى اللواء عثمان «بإيداعه الأذونات المعطاة بحفر آبار ارتوازية، ومخالفات بناء وغيرها…»، حيث بادر الى الإدّعاء على عثمان بجرم مخالفة قرار قضائي بسبب «عدم تلبيته طلباً صادراً عن السلطة القضائية بوجوب تسليمه لائحة الأذونات المتعلقة بالآبار والبناء والكسارات والمرامل والمقالع والزفاتات والهنغارات والمشاغل إلخ…»
مع العلم أنّ جرمانوس كان ادّعى سابقاً على «شعبة المعلومات» في 8 نيسان الماضي بجرم تسريب محاضر تحقيق على رغم من أنها لا تتمتع بالشخصية المعنوية، وسطّر إستنابةً قضائية إلى كافة الأجهزة الأمنية طلبَ فيها «إبلاغه عن أيِّ رشى تقاضاها عسكريون في مواضيع حفر آبار ارتوازية من دون تراخيص، إضافة إلى أعمال بناء ومخالفات بناء وأعمال بناء في الأملاك العمومية، وخصوصاً في قضاء المنية».
وفق المعلومات، ما طلبه جرمانوس من «المديرية» لم يتلقّ عليه أيّ جواب. وبدا الأمر مفهوماً أكثر مع مبادرة عثمان منذ نحو أسبوعين الى الإيعاز «بعدم تزويد أيّ مرجع ذي صلاحية أيّ معلومات أو مستندات أو الرد على طلبات لا تدخل ضمن اختصاصه، على أن يتمّ الرجوع الى هذه القيادة في كافة الحالات المماثلة».
وضمّن عثمان برقيته تذكيراً بأنّ «النيابة العامة العسكرية هي سلطة قضائية بحتة غير مكلّفة أيّ مهمات في إطار الضابطة الإدارية، وليست سلطة وصاية على المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ولا تتمتع بأيّ صلاحية رقابية على الأعمال الإدارية في قوى الأمن الداخلي».
وفق المعطيات، في حوزة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية لوائح ومستندات تكشف كمّاً كبيراً من المخالفات المغطاة بأذونات ممنوحة سابقاً، منها 160 ألف رخصة بئر أرتوازي ووجود 180 مرملة في كسروان وحدها، فيما قريبون من جرمانوس يؤكدون أنه تحرّك على «جبهة الأذونات» بعدما استحصل على معطيات لتحريك هذا الملف وليس ربطاً بأيّ إعتبارات سياسية، وذلك من ضمن تحقيق قضائي حول قرارات إدارية مخالفة للأنظمة والقوانين وتُعرِّض مانحها للملاحقة، ويشيرون ألى أنّ «قوى الأمن جهاز أمني يخضع لسلطة القضاء العسكري وملزم بالاستجابة لاستناباته».
وبالتأكيد، لا يمكن فصل هذا الكباش عن تطورات ملف «الفساد القضائي» حيث أدّت التحقيقات التي أجرتها «شعبة المعلومات»، وقادت الى عشرات التوقيفات، الى وضع أكثر من قاضٍ في دائرة الشبهات، بينهم جرمانوس نفسه، مع العلم أنّ خمسة قضاة حتى الآن باتوا «خارج الخدمة» ومحالين الى المجلس التأديبي. وقد بدا لافتاً في هذا السياق «التنويه» الذي سمعه رئيس «شعبة المعلومات» العميد خالد حمود من رئيس الجمهورية ميشال عون «حول حِرفية عمل «الشعبة» والثقة بتحقيقاتها مع نصيحة بالذهاب الى الآخر… وأنا الى جانبكم».
ومن المعارك «الفرعية» لهذه الحرب الدائرة بين الأجهزة القضائية والأمنية إندلاع سجال حول مدى صلاحية التفتيش القضائي في مساءلة جرمانوس، بصفته قاضياً في المحكمة العسكرية، على خلفية ورود اسمه في «ملف السماسرة».
«السوابق» في إستدعاء قضاة عدليّين يعملون في المحكمة العسكرية، ومثولهم أمام التفتيش القضائي، لم يمنع جرمانوس من التشدّد في عدم جواز مثوله قانوناً أمام «التفتيش» وضرورة مخاطبة وزارة الدفاع في أيِّ أمر يتعلّق بقضاة المحكمة العسكرية والتي هي صاحبة الصلاحية في إعطاء الإذن أو حجبه، تماماً كما وزارة الداخلية هي صاحبة الصلاحية في كل ما يتعلق بمساءلة المدير العام لقوى الأمن الداخلي.
على ضفة قوى الأمن ثمّة تسليم بأنّ المواجهة التي دشّنها جرمانوس تعكس مدى المأزق الذي وصل اليه، فاتّجه نحو «الكيدية والانتقام بعدما استفاق فجأة على الأذونات»، والأهم «أنّ هذه الأذونات المعطاة، في مراحل سابقة لتعيين عثمان، كانت تأتي على شكل طلبات من كافة القوى السياسية على مدى عشر سنوات، والمستفيد الأكبر منها كان «التيار الوطني الحر».
وفي رأي جهات مطلعة في المديرية أنّ «تصرّف جرمانوس الكيدي ناتج عن ورود اسمه في تحقيقات قضائية، وبدلاً من أن يَمثُل أمام الجهة الصالحة لمساءلته قرّر السير عكس السير بوضع نفسه فوق المحاسبة». وتشير هذه الجهات الى «أنّ المادة 95 من أصول التنظيم القضائي كافية لاعتباره فاقداً للأهلية الوظيفية، كون محاسبته أمراً غيرَ خاضع للتأويل. وفي هذا السياق يبدو تجاوز عثمان لصلاحياته، والذي كان يحصل تحت سقف الحاجة الملحّة الى الأذونات وبغطاء سياسي من أعلى الهرم، بسيطاً أمام وجود قاض يرفض الخضوع لأعلى سلطة قضائية. لذلك فإنّ مَن يتمرّد على أعلى سلطة قضائية لا يستطيع أن يحاسب مَن تمرّد على إستنابة».
وتتساءل هذه الجهات «ما الآلية في هذه الحال لمحاسبة قاض في موقعه فيما هناك مجلس أعلى من صلاحياته محاكمة الرؤساء والوزراء»، لافتة الى «أنّ جرمانوس، وللمصادفة، لم يتوانَ ومنذ توقيف ط. ا و ج.ع في ملف الفساد القضائي، عن إظهار توتره وإنعكاس ذلك مباشرة على تصرفاته التي افتقدت الى أبسط المعايير القانونية، خصوصاً لجهة محاولة الإمساك بملف هذين الموقوفين اللذين أوقفا بناءً على إشارة النيابة العامة الاستئنافية كون الجرائم المنسوبة اليهما لا صلة لها بالقضاء العسكري، ولاحقاً من خلال التصويب على اعتبار أنّ مكان توقيفهما غير قانوني مع العلم أنّ هذا التوقيف راعى كل الشروط القانونية».
وثمّة تسليم في المديرية «بأنّ عدم إعطاء وزارة الداخلية الإذن بملاحقة عثمان، وهو أمر لن يحصل بالطبع، يجعل من دعوى جرمانوس غير ذي قيمة. وأنّ الأذونات التي أُعطيت بناءً على طلب كافة الأطراف من باب «تنفيس» الوضع المعيشي والاجتماعي هي أعمال تقع ضمن نطاق الضابطة الإدارية وليس العدلية المكلّفة بها قوى الأمن والتي تخرج أصلاً عن صلاحيات القضاء العدلي والعسكري».
ويضيف أهل المديرية «إذا أراد جرمانوس المحاسبة فالحري به المطالبة بمحاسبة الإدارات والوزارات التي لم تقم بواجباتها طوال السنوات الماضية».