على رغم كلّ شيء لم تبدأ الحرب ضد «داعش» بعد. صحيحٌ أنّ غارات حصلت وأنّ الطائرات الحربية التي شاركت في القصف كانت من جنسيات مختلفة وشملت بعض الدول العربية، وصحيحٌ أيضاً أنّ الغارات الجوّية طاولت الأراضي السورية، على رغم الجدل الذي سبقَ ذلك، وصحيحٌ أنّ مَنابع النفط استُهدِفت وأنّ البَحرية الأميركية استعمَلت صواريخَها، إلّا أنّ الحرب لم تبدأ بعد.
فكلّ ما حدث ويحدث الآن إنّما يدخل في نطاق الخطوات التمهيدية، لا بل هي أقرب ربّما إلى عملية جَسّ نبض منها إلى بدء الحرب الفعلية والجدّية، أو قد تكون مرحلة الحرب الوهمية، وذلك لأسباب عدّة، يبقى أبرزها:
1 – تلمُّس ردود الفعل الانتقامية التي يمكن أن تقوم بها التنظيمات الإسلامية المتطرفة المتعاطفة مع «داعش» عند بدء الحرب الفعلية. فالعواصم الغربية لم تعُد تحتاج لأدلّة إضافية عن مدى تغلغُل هذه التنظيمات في المجتمعات الغربية، والتي لم تعُد محصورة بالجاليات الإسلامية وحدها، بل تعدَّتها لتصلَ إلى عمق تركيبة المجتمعات الغربية.
آلاف المقاتلين الذين يحملون جنسيات غربية مختلفة انتقلوا إلى سوريا من خلال شبكات متخصّصة بعضُها موجود في بلجيكا والبعض الآخر منتشر في بلدان بعيدة. ولهذه الشبكات امتدادات متجذّرة في مختلف البلدان الغربية، ما يعني احتمالَ تحريك خلايا نائمة متروكة لساعة المواجهة.
وبات معلوماً أنّه في معظم البلدان الاوروبية وفي مختلف الولايات الاميركية، إجراءات أمنية مشدّدة تشمل تقريباً كلّ شيء له علاقة بالتجمّعات. ويمكن لزوّار باريس مثلاً أن يلاحظوا ذلك بوضوح، إضافةً لتشديد الرقابة على الجاليات الإسلامية الموجودة.
2- الحذَر الأوروبي من الاندفاع بقوّة في هذا المشروع نتيجة التجارب الاميركية السابقة، حيث كانت واشنطن تتوقف فجأة وبلا سابق إنذار لتدخلَ في مفاوضات منفردة، تماماً كما حصل مع فرنسا خلال التلويح بضرب سوريا منذ نحو العام. وبالتالي فإنّ العواصم الاوروبية تريد صورةً واضحة للمسار والأهداف قبل الشروع الكامل في عمل واسع.
3- عدم اكتمال الأهداف التي تريدها واشنطن من العملية التي ستطول كثيراً. فهدفُ ضرب «داعش» وإنهاؤها يبقى هدفاً عامّاً أو عنواناً عريضاً، فيما العناوين الأخرى هي الأكثر أهمّية وإثارةً للجدل، كونها تُحاكي خريطة المصالح المستقبلية في المنطقة.
ويبدو أنّ واشنطن تحاول التفاوض من خلال «إيهام» القوى المؤثّرة في الشرق الأوسط، وخصوصاً إيران وروسيا، أنّها ماضية في الحرب ولو من دون مشاركة طهران وموسكو في العمليات وفق الشروط الحاليّة، التي تبقى مُبهمةً في كثير من جوانبها، أي دفع إيران ومعها روسيا للتخَلّي عن شروط كثيرة والدخول وفقَ سقفٍ منخفض في ورشة «الشرق الأوسط الجديد» من خلال إيهامهما ببَدء الحرب الفعلية.
وهذا ما حصلَ تماماً مع سوريا التي اعلنَت موافقتها على الضربات فورَ بدء الغارات، ولو من خلال سقفٍ منخفض اقتصرَ على «إعطاء العِلم» وليس «أخذ الموافقة». يومَها انتقدَت طهران ومعها موسكو الموقفَ السوري من زاوية هذا التفسير.
وفي الوقت الذي تُنفّذ فيه القيادة العسكرية الأميركية ما يمكن بتسميته مناورة حربية أو ضربة محدودة، تَجهَد الديبلوماسية الاميركية في صوغ تسوية وفق أفضل الشروط الممكنة. وفي النهاية هي تُدرك جيّداً، كما طهران، أنّه من المستحيل تنفيذ حرب منتِجة ضد «داعش» من دون المساهمة الإيرانية.
في اختصار، تعمل القنوات الديبلوماسية بنشاط كبير، وقد سَجّلت اللقاءات الجانبية في نيويورك على هامش الدورة العادية للأمم المتحدة أهمّيةً أكبَر من الكلمات التي شهدتها القاعة الأممية.
وعلى رغم المواقف المتشنّجة التي تتطلّبُها عملية شدّ الحبال الدائرة في الكواليس، تتحدّث الأوساط الديبلوماسية عن إيجابيات كثيرة ظهرَت ولو أنّها لا تزال تحتاج لمزيد من الوقت للتوصّل إلى التفاهم المنشود. وربّما يدخل تصريح وزير الخارجية الالماني فرانك فالتر شتاينماير عن خطوات كثيرة قد تحقّقت في الملفّ النووي الإيراني في إطار تأكيد المناخات الإيجابية.
وعلى رغم «ضربة» اليمن، بقيَت الخطوط مفتوحة بين السعودية وإيران، لا بل يبدو أنّها متّجهة لمزيد من التفعيل. والأهم بالنسبة إلى لبنان هو أنّه كان حاضراً على مستوى اللقاءات الدائرة. صحيحٌ أنّ أيّ جديد لم يطرأ على الاستحقاق الرئاسي إلّا أنّ الملف اللبناني كان حاضراً، وفق ما تؤكّد الأوساط الديبلوماسية الاوروبية المعنية، خصوصاً في الشقّ الأمني، إضافةً إلى الشقّ السياسي.
في لبنان الحركة شبه مشلولة في ملف الاستحقاق الرئاسي في ظلّ إعطاء الأولوية للتطورات الأمنية، بدءاً من عرسال مروراً بشبعا وانتهاءً بطرابلس وعكّار. وربّما هذا الواقع أعطى انطباعاً لكثيرين بأنّ الفراغ الرئاسي سيستمر سنوات طويلة، لكنّ التقويم الدولي للواقع اللبناني لا يبدو بهذا القدر من التشاؤم، على رغم التوجّس من المخاطر الأمنية التي ستفتح الباب أمام تسوية سياسية.
ويبدو أنّ هناك خيطاً خفيّاً يربط بين الحركة الخارجية والتطوّرات الداخلية المرتقبة. فالشروع أكثر في حركة تفاهمات دولية وإقليمية سيقابله تعقيدات لبنانية داخلية إنْ على المستوى الأمني أو على المستوى السياسي، خصوصاً لجهة التمديد للمجلس النيابي.
ويعتقد البعض أنّ تعقيد الأمور أكثر في هذا المجال، خصوصاً وسط المزايدة المسيحية القائمة، سيُنضج الظرفَ الداخلي أمام انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فالتمديد سيصبح أقلَّ تعقيداً مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وذلك تزامُناً مع التفاهمات الخارجية في شأن الحرب على «داعش»، ولن يكون ذلك وليد صدفة أو ضربة حظ، بل هناك خيوط خفية تربط جيّداً بين الداخل اللبناني والوضع الإقليمي، وسط اعتقاد بأنّ الثنائي نبيه برّي ووليد جنبلاط يتوَلّيان أمرَ هذه الخيوط، وهو ما اعتادا القيام به عند أكثر من محطة تاريخية.