لم يكن متوقعاً، إلى حد كبير، أن يكون أول اقتحام للمتاهة الليبية من مصر.
الحرب لم تبدأ بعد، لكن الضربة الجوية المصرية، أولى الإشارات بأن الصمت على انتقال «الدولة الإسلامية» من العراق وسوريا إلى ليبيا، لن يمر بخير، و «داعش» الاسم التجاري للدولة، لن تعيد تجربتها المشرقية في سواحل شمال أفريقيا كما قد يرد في كتالوغات أمراء الفتوحات الإرهابية.
الإعلام المصري يسمّيها «ضربة جوية» إيقاظاً لمزاج الحروب الكبرى.. إعلام آخر يسمّيها «غارات» في محاولة توصيف محايد، أما الإعلام الذي يصفها بالعدوان (على مدنيين ليبيين) أو اعتداء (على سيادة ليبية)، فهو إعلام الوجه الآخر من الاستقطاب، يلغي واقعاً وصلت فيه ميليشيا «داعش» ليبيا وسكنت سواحلها، وحوّلتها إلى مسارح لاستعراضاتها الدموية بقتل 21 مصرياً اختارتهم من الأقباط لتوقظ لدى جمهورها المستهدف، شهوته الطائفية، بتصوير الذبح انتقاماً للأسيرة «كاميليا» إحدى نساء تصارعت عليها السلطات البطريركية المسيحية والسلفية الإسلامية، حين اختفت من منزلها الزوجي، وقيل إنها أسلمت للتخلص من الرابطة الحديدية، فاستعانت الكنيسة بسلطة الدولة أيام مبارك لإعادتها إلى الدير لتشتعل تظاهرات السلفيين «أريد أختي كاميليا…».
ذلك الصراع البطريركي (الأبوي) ألغى فردية كاميليا واعتبرها من «الخراف الضالة» في القطيع، وهو ما سهّل على «داعش» إعادة استخدامه في استعراضها على شاطئ سرت.
ـــ 2 ـــ
«قطع الرأس هو الطغيان في صورته القصوى».. تقول باحثة الأنثروبولوجيا في جامعة دورهام، فرانسيس لارسن فى حوار مع بوسطن غلوب (ستصدر ترجمته العربية خلال أيام مع شهرية «عالم الكتاب» القاهرية) حول كتابها: «..النحر: تاريخ الرؤوس المفقودة والرؤوس الموجودة»… تصل فيه إلى أن الذبح «استعراض قاس للقوة»..
وهذا ما يتم منذ ظهور «داعش» بسكاكينها في سوريا ثم العراق والآن في ليبيا، حيث تنزع كل فردانية بتحويل الشخص إلى ضحية منسوبة إلى «قطيعها»، وهذا ما سلب من 21 مصرياً، اختارتهم «داعش» لأنهم أقباط ويصلحون لاستعراضها الدعائي الموجّه لجمهور واسع لديه «داعشية نائمة»، تنتظر لحظة مناسبة لتدمير الطغيان الحالي، بطغيان يحمل روائح «الخلاص العلوي المقدس»… وانتشاء «المهام الرسولية» ومتعة ممارسة العنف الجماعي كما تروّج لها ميديا ورياضات تجتذب الآلاف يومياً إلى عالمها الدموي بالغ القسوة والرومانتيكية معاً.
هكذا فالحرب قد تكون بدأت بضربة /غارة/ لرد الاعتبار المصري، وهو ما لم يكن من الممكن تجنّبه، أو تفاديه، فالطائرات المصرية باستهداف مخازن أو بنايات تخص «داعش» أو حلفاء ليبيين استطاعت استقطابهم، مثل «أنصار الشريعة» الخاطفين الأساسيين للأقباط المصريين، توجه رسالة إلى الداخل الليبي قد تعطل تأثير المغناطيس الداعشي، وإلى «داعش» نفسها حيث يمكن أن تخلق تنسيقاً بين مصر والجزائر وبرعاية حلفاء الخليج (خاصة الإمارات) لسد ثغرات الحدود المفتوحة أمام تسرّب فرق القتل وأدوات الاستعراض من سلاح وأموال وخدمات لوجستية لتتحوّل السواحل الليبية إلى مسارح استعراضات القسوة «الداعشية».
ـــ 3 ـــ
..ومصرية الضربة الأولى ستسخّن الحرب المنتظرة في الإقليم…
خاصة مع ارتباط هذه الضربة بالتوقيع على صفقة «الرافال»، واحتمال مشاركتها في ما يطلبه السيسي من الأمم المتحدة بتفويض دولي في ليبيا، وصفقة الطائرات المثيرة للجدل، تقوّي من علاقات القاهرة وباريس وتعيد إلى فرنسا دور العرّاب الذي كانت تلعبه أيام مبارك، كعنصر توازن ضروري للتحالف الإستراتيجي بين القاهرة وواشنطن. وفي هذه العودة تريد فرنسا لعب دور مهم في هندسة المتاهة الليبية عبر لاعب إقليمي مثل مصر، التي لا تمثل فقط ثقل الدور التاريخي، ولا ضخامة القوة العسكرية فحسب، ولكنها قد تبعد الحرب قليلاً عن صورتها الطائفية أو المذهبية.
مصر، برغم الحزازات الطائفية، تمثل انسجاماً اجتماعياً لا يتوفر في بلدان تحكم طائفياً أو مذهبياً منذ اجتياح صور للذات غارقة في الولع بالجماعات الصغيرة.
ستسخن الحرب بترتيبات جديدة، إن بدأت في ملعبها الليبي، أو قادها «الانسجام المصري» من دون ألعاب مستهلكة حول البحث عن إسلام معتدل، أو هي اختصرت في الدرس القديم بحل الاحتقان الداخلي بحرب خارجية، وهذا ما ترتّب له «داعش» عبر محاولتها فرض «صورة الحرب من أجل إعادة إسلام السيف»، الذي يصفّي الأقليات الدينية، وليس الحل في إعادة بناء المنطقة على هندسة الطوائف… فهذا هو الجحيم بعينه.