لا هاجس يُشغل الإسرائيليين حالياً سوى تهجير رفح بسكانها الذين باتوا يفوقون المليون ونصف المليون نسمة. والقرار بذلك اتُخذ، وسيصدر في أي لحظة عن مجلس الوزراء المصغّر المنعقد في اجتماعات مفتوحة منذ مساء الأحد. وستتمّ تغطية قرار التهجير بالذرائع الإنسانية، أي إبعاد المدنيين من بقعة العمليات العسكرية. وعلى الأرجح، ستنطلق العملية قبل رمضان.
على رغم إعلانها الحرص على أرواح المدنيين في غزة، ما زالت واشنطن تمنح إسرائيل تغطية سياسية وبراءة ذمة لتنفيذ مخطط التهجير. فلا مشكلة لدى الغربيين إذا حصل التهجير ضمن حدود «منطقية» من الخسائر في الأرواح. فالمهمّ هو تجنّب مجزرة جماعية أو إبادة سيسجّلها التاريخ ويحاسب عليها ذات يوم.
ولذلك، تقوم واشنطن بتغطية طلب إسرائيل استمرار الحرب. ولمرة جديدة، عطلت قراراً لمجلس الأمن الدولي يقضي بوقف النار، ومنحت نتنياهو مزيداً من الفرص، لا لضرب «حماس» فحسب، بل لتنفيذ مخطط التهجير الذي يشكّل في الواقع جزءاً من «صفقة القرن» التي صاغها مساعدو الرئيس السابق دونالد ترامب، ولقيت ترحيباً شديداً في إسرائيل.
لم يخرج الأميركيون من منطوق هذه الصفقة. وليس سراً أنّ وزير خارجيتهم أنتوني بلينكن سعى بوضوح، في زيارته الأولى للمنطقة بعد بداية الحرب في غزة، إلى تسويق فكرة التهجير خلال محادثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في القاهرة، ودعا إلى اقتطاع بقعة من سيناء لنقل الغزيين إليها. لكن السيسي تصدّى بقوة للفكرة.
أصرّ الإسرائيليون على تنفيذ المخطط، ولم يتراجع الأميركيون عن تأييدهم. ويتحدث محلّلون عن ضغوط سياسية واقتصادية ومالية هائلة تتعرّض لها مصر حالياً، من جانب إسرائيل والغربيين، لدفعها إلى الرضوخ لمقتضيات الخطة. ويعتقد هؤلاء أنّ نتنياهو لن ينهي الحرب في رفح قبل إنجاز عملية التهجير، لأنّ أحداً في العالم لا يمارس عليه ضغوطاً كافية لثنيه عن ذلك.
وفي الساعات الأخيرة، تلقّى نتنياهو خبراً سعيداً من واشنطن، وهو أنّ حليفه ترامب حقّق تقدّماً غير مسبوق في السباق الانتخابي، باعتماده مرشحاً عن الحزب الجمهوري. وهذا التقدّم يجعله في موقع مناسب جداً للفوز على المرشح الديموقراطي، أكان الرئيس جو بايدن أو سواه.
في هذا الظرف الانتخابي الحرج، سيتجنّب بايدن معاندة نتنياهو حول ملف الحرب في غزة، لأنّ ترامب سيستغل الموقف لتحريض الناخبين المؤيّدين لإسرائيل ضدّه واستمالتهم. وهذا الأمر يعرفه نتنياهو ويراهن عليه لتصفية القضية الفلسطينية.
وأمام رئيس الوزراء الإسرائيلي ورفاقه عام كامل من المغامرات، وخلاله لن يوقفوا الحرب في غزة، وقد يشعلون حرباً مشابهة في الضفة الغربية، كما يخشى كثير من الفلسطينيين. والخوف من هذا التطور هو السبب الأساسي للإرباك الذي يصيب القيادة الفلسطينية.
إذاً، رفح التي تأوي وحدها اليوم قرابة ثلثي سكان القطاع مقبلة على أحداث دراماتيكية فيها من الرعب الدمار والدم ما يفوق كل ما جرى في حرب غزة طوال 5 أشهر مضت. وسيضطر المصريون إلى استقبال الناس في سيناء، لضرورات إنسانية على الأقل. وهناك سيحاولون تنظيم لجوئهم في بقعة محدّدة خوفاً من انفلاشهم في الداخل وتَحوّلهم قنبلة موقوتة تهدّد المجتمع المصري.
في هذا الوقت المستقطع فلسطينياً، قد لا يكون لأي طرف مصلحة في تفجير الجبهة في لبنان. فـ»حزب الله» الذي اختار «إشغال» الجيش الإسرائيلي على الحدود دعماً لغزة، لن يذهب إلى الحرب المفتوحة لأنّها خطرة، لكنه لن يتخذ قراراً بالتهدئة فيما الحرب في رفح تبلغ ذروتها. وعلى العكس هو سيضطر إلى رفع وتيرة «الإشغال» بما يناسب، ما يعني أنّ الحرب بين «الحزب» وإسرائيل ستشهد تصعيداً واسعاً.
وإذا كان الإسرائيليون يجدون اليوم أنّهم يمتلكون هامش توسيع المواجهة من منطقة الحدود إلى خط الليطاني ثم إلى ما بعده، فهذا يعني أنّ باب المفاجآت سيُفتح على مصراعيه عند انفجار الوضع في غزة.
والسبيل الوحيد لمنع هذا السيناريو الكارثي في لبنان، هو نجاح الوساطات الجارية اليوم، ولا سيما منها تلك التي يقودها عاموس هوكشتاين، في ضبط الحدود. أي، أن يقرّر «الحزب» إخراج نفسه من وضعية «الإشغال» التي اختارها. وهذا الاحتمال معدوم تقريباً. ولذلك، يبدو لبنان في النار أيضاً.
وفي قراءة بعض الخبراء، أنّ إسرائيل لن تستعجل الدخول في حربين في آن معاً، في غزة ولبنان. وهي تفضّل الاستفراد بغزة أولاً والانتهاء منها، ثم يأتي دور استفراد لبنان.
ويدور في بعض الأوساط، أنّ إسرائيل خطّطت منذ سنوات لضربات قاسية ضدّ «الحزب»، وتستهدف خصوصاً صواريخه الدقيقة، وأنّ حرب غزة والمناوشات الجارية في الجنوب منحتها الذريعة لذلك. فالأصوات ترتفع في الداخل الإسرائيلي تطالب بضرب «حزب الله» لئلا يتمكن في أحد الأيام من تكرار ما فعلته «حماس» في 7 تشرين الأول.
ولذلك، في رأي هؤلاء، يتموضع لبنان اليوم في قلب النار. واحتمال تنفيذ إسرائيل مغامرة مدمّرة في الداخل اللبناني لم يعد سوى مسألة وقت، لا أكثر، أياً كان الاتجاه الذي ستسلكه الحرب في غزة.