لم تنجَح الاتصالات التي جرَت حول أوضاع دروز السوَيداء، بما فيها بيان النصرة، إلى طمأنةِ وجَهاء الطائفة، لا بل على العكس.
التبريرات الكثيرة التي سيقَت والتي توَلّى جانباً منها مسؤولون قطريون وأتراك، تحدّثَت عن «مصادفة» زمنية جَمعت بين هجوم النصرة على مطار الثعلة العسكري والذي يَنطلق من زاوية التحضير للهجوم على دمشق، وبين قتلِ أكثر من 25 شخصاً درزياً في قرية قلب لوزة في محافظة إدلب، حيث وضعَتها هذه التبريرات في إطار حادث فردي.
حتى وليد جنبلاط نفسُه والذي تبَنّى رسمياً رواية «الحادث الفردي» كان كلامُه مختلفاً ضمن الغرفةِ المقفَلة. ذلك أنّ المجموعات الدرزية في ريف إدلب ما برحَت تعيش ممارسات مختلفة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وصَلت إلى حدود نبشِ المقامات المقدّسة لديها، وأدَّت إلى سقوط قتلى وفرضِ شعائر دينية أخرى، ما اضطرّ العديد منهم إلى الهجرة وتركِ منازلِهم.
ووفقَ هذا السياق لا يمكن اعتبار ما حصَل وكأنّه حادث «فردي» وخصوصاً أنّ حجمَ النتائج كان كبيراً، أضِف إلى ذلك طريقةَ القتل ذبحاً.
ومعركة مطار الثعلة والتي شارَك فيها الدروز إنّما تَعني الوصولَ إلى القرى الدرزية في السوَيداء، وبالتالي فاعتبارُ هذه المعركة في إطار التحضير لمعركة دمشق فقط «سذاجة» مطلقة. ومِن هذا المنطلق شارَك الدروز بقوّة في التصَدّي لمهاجِمي «النصرة».
في المحَصّلة، هنالك حقيقة واضحة على الأرض، جبهة النصرة باتَت على تخوم القرى والبَلدات الدرزية في السوَيداء، والأهمّ أنّ «داعش» أصبحَ على بعد عشرة كلم فقط من المناطق السَكنية للدروز، ما يعني أنّ الكارثة أضحَت على الأبواب، حتى ولو جرى تثبيتُ هدنةٍ هشّة مرحليّاً.
وهذه الصورة المتشائمة كانت مدارَ تشاوُر دائماً، منذ اندلاع الحرب في سوريا بين المثلّث الدرزي السوري – اللبناني- الإسرائيلي. وحاوَل كلّ فريق درزيّ اجتراحَ الحلول التي تبعِد الكأسَ المرّة عن دروز سوريا الذين يشَكّلون عدَدياً أكثرَ مِن نصفِ الدروز في الشرق الأوسط.
ومنذ أكثر من سَنة ونصف السَنة تَواصَل وجَهاء دروز سوريا مع الرئاسة السورية، وطالبَ هؤلاء الجيشَ السوريَ بإرسال السلاح إليهم خشيةَ اقترابِ المجموعات المتطرّفة مِن مناطقهم. وقيل يومَها إنّ السلطات العسكرية السورية أرسَلت أسلحةً خفيفة إلى السكّان، لكنّها أحجمَت عن إرسال السلاح المتوسط والثقيل، ما دفعَ بالدروز لرفع شكواهم، كون السلاح الخفيف وحدَه لا يضمن الواقعَ العسكري.
لكنّ السلطات السورية التي أكّدت على مسؤولية الجيش في حماية الجميع بدا أنّها تَخشى إرسالَ السلاح المتوسط والخفيف أوّلاً وكي لا يدفعَ ذلك بالدروز للوقوع في إغراء الاستقلال عن سلطة دمشق وإنشاء كيان حُكمٍ ذاتي على غرار الأكراد مثَلاً، وثانياً بسبب مواقف وليد جنبلاط المعادية للنظام وإمكان وقوع بعض الدروز تحت تأثير دعواته، حيث يلحَظ التاريخ في بعض مراحلِه وجودَ تأثير للزعامة الدرزية في لبنان على مزاج الشارع الدرزي السوري.
وعلى خَطٍّ موازٍ، حاوَل جنبلاط اجتراحَ الحلّ على طريقته، فعقَد تفاهماً مع جبهة النصرة بمساعدة كلّ مِن قطر وتركيا. فأعلنَ أكثرَ مِن مرّة أنّ النصرة ليست تنظيماً إرهابياً بل هي فصيلٌ سوريّ معارض، مجَدّداً هجومَه على النظام السوري، وساعدَ النصرةَ في شَلّ الحركة على طريق ضهر البيدر لأكثر من ثلاثة أسابيع تحت عنوان الضغط لإطلاق العسكريين اللبنانيّين، لكنّ مسعى جنبلاط لم يؤدِّ إلى أيّ نتيجة .
بَقيَ خط دروز إسرائيل وهو الأهَمّ. ففيما تحرّكَ الشيخ طريف مرّةً باتّجاه السفير الأميركي المعتمَد لدى إسرائيل ومرّات لدى السلطات الإسرائيلية، أبلغَ طريف في نهاية الأمر إخوانَه في سوريا بأنّه تَلقّى وعداً من السلطات الإسرائيلية بالسماح لدروز إسرائيل بتجاوز الشريط الحدودي والذهاب لنصرةِ إخوانهم عسكريا في حال تعرّضَ هؤلاء لخطر وجوديّ.
والمعروف أنّ لدروزِ إسرائيل قوّةً لا بأسَ بها في مجموعات النخبة في الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً في لواء غولاني، ما يَعني أنّ هؤلاء الجنود سيَدخلون في ثيابٍ مدَنية إلى السوَيداء في حال حصول داعٍ أمنيّ خطير، وهو ما يَعني ضمناً تكريسَ المنطقة الجنوبية في سوريا منطقةَ نفوذ إسرائيلية مباشرة.
في المقابل تَستعدّ الساحة السورية لاحتضان موجةِ عنفٍ قوية خلال الأسابيع المقبلة. فعدا معركة دمشق الجاري التحضيرُ لها، ساهمَت إيران بالتعاون مع النظام في نشرِ عشرات الألوف من المقاتلين الشيعة من إيران وأفغانستان والعراق وباكستان إضافةً إلى حزب الله، تحضيراً لمفاجأةٍ عسكرية قريباً تَسمح باستعادة زمام المبادرة الميدانية بعد النكساتِ الأخيرة، وخصوصاً خسارة جسر الشغور.
ونُقِلَ عن قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني قولُه لكِبار الكوادر خلالَ زيارته الأخيرة لسوريا إنّ حربَ سوريا هي بمثابة حربِ وجود ومصير للمحوَر المتحالف مع إيران. ولذلك فلو تطلّبَت المعركة إرسالَ مئةِ ألف مقاتل إلى سوريا فإنّ إيران لن تتردّد لحظةً بذلك.
الذين التقوا سليماني خرَجوا بانطباع بأنّ إيران والنظام السوري بصَدد مفاجآت عسكرية قريبة في سوريا وأنّ المعركة ما تزال طويلة وطويلة جدّاً.
ولأنّ لبنان مرتبط بمصير الأحداث في سوريا، فلا مفرَّ مِن الاستنتاج بأنّ أفقَ التسويات ما يزال بعيداً، لا بل يجب عدمُ استبعاد مزيدٍ مِن التعقيدات العسكرية والسياسية في لبنان.