مع اقتراب المعركة الرئاسية الأميركية، تحاذر إدارة الرئيس جو بايدن اندلاع حرب في الشرق الأوسط، بل هي تعمل لاستثمار إنجازين، إذا أمكن: التفاهم مجدداً مع إيران ووقف الحرب في غزة. لكن رغبة بنيامين نتنياهو في التصعيد قد تدفع الجميع إلى حيث لا يريدون.
ليس سهلاً على إيران و”حزب الله” “العثور” على الصيغة المناسبة للرد على اغتيال فؤاد شكر واسماعيل هنية، من دون تفجير حرب إقليمية مفتوحة. فمحور طهران لن يقبل هذه المرة باعتماد رد شكلي قد يوحي بضعف أو خوف كما فعل في نيسان الفائت. لكنه أيضاً سيتجنب تنفيذ ردّ نوعي في طبيعته وحجمه وأهدافه، ما يسمح لنتنياهو بالاستثمار وتوسيع بنك أهدافه في شكل خطر، وفي اتجاهات مختلفة، فيغرق الشرق الأوسط في حرب مفتوحة يتورط فيها عدد من القوى الدولية.
تأخر الرد أياماً كانت خلالها قوى المحور تنكب على درس الخيارات ورسم السيناريوهات بكثير من التأني، خوفاً من “دعسة ناقصة” أو خطأ في الحسابات لا ينفع بعده الندم. ولكن، في أي حال، الردُّ حتمي لإعادة الاعتبار، وقد بات قريباً. وهو ليس موضع اعتراض حقيقي حتى من جانب الولايات المتحدة، شرط أن يبقى مضبوطاً تحت سقف العمليات الانتقامية المحدودة والمحددة. لكن هذا الرد، إذا تجاوز الضوابط، فقد يؤدي إلى تفجير الشرق الأوسط لأن نتنياهو، وفق بعض المطلعين، لن يتورع عن المغامرة بإشعال حرب متعددة الجبهات والأطراف، إذا وقف الأميركيون معه بصلابة في هذه الحرب.
وعلى عكس ما يظن كثيرون، قد يستغل نتنياهو إرباك إدارة بايدن ليفرض عليها الخيارات. ومسعاه الأساسي في هذه المرحلة يتركز على ضرب أي تفاهم مفاجئ قد يتحقق بين واشنطن وطهران. وهو يريد استباق أي تفاهم بدفع الأميركيين إلى مزيد من التورط العسكري والسياسي إلى جانب إسرائيل، بذريعة أن أمنها معرض للخطر. وبالفعل، تتحرك إدارة بايدن اليوم، وفي شكل مثير، في اتجاهين متناقضين. فهي من جهة تتواصل مع طهران في محاولة لإبرام تفاهم سياسي معها. ومن جهة أخرى هي تعلن التزامها الثابت والمتزايد بدعم إسرائيل وضمان أمنها.
ويظهر هذا التناقض في المشهدين السياسي والعسكري في الشرق الأوسط. فواشنطن تحرص على استمرار خطوط التواصل مع طهران، على مستوى الخبراء والأمنيين والديبلوماسيين في عُمان، فيما تحشد الأساطيل في المتوسط استعداداً للتدخل إلى جانب إسرائيل عندما تتعرض لضربات إيران و”حزب الله”. وفي هذا الشأن، تبرز المعلومات التي ترددت عن زيارة سرية قام بها وفد أميركي لطهران بهدف إقناع مسؤوليها بحصر مستوى الرد على اغتيال هنية وشكر بعمليات مضبوطة، ولا يُطلَق العنانُ لمواجهات عسكرية مفتوحة في كل الاتجاهات.
نتنياهو كان سجل نقطة مهمة في مرمى الأميركيين، خلال زيارته الحافلة لواشنطن وإطلالته الاحتفالية أمام الكونغرس، حيث نجح في اجتذاب أكبر دعم من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. وهو لن يسمح بزوال مفاعيل هذا الكسب السياسي قبل أن يحوله استثماراً حقيقياً في المواجهة مع إيران وحلفائها المحليين.
ويرى خبراء أن نتنياهو ربما يحاول استغلال الفرصة التاريخية، والمزايدة بين الحزبين لدعم إسرائيل، من أجل توريط واشنطن في حرب حقيقية في الشرق الأوسط، كشريك أصيل لإسرائيل، فتأخذ عنها الجزء الأكبر من المهمات العسكرية، وتتحمل عنها الأكلاف الباهظة. وهذا الأمر تدركه إدارة بايدن وتخشاه كثيراً. ولذلك، هي تتمنى على طهران عدم منح نتنياهو فرصة ينتظرها لدفع الجميع إلى الحرب رغماً عنهم.
الإيرانيون يتفهمون جيداً رغبة إدارة بايدن، ويريدون التجاوب معها وتجنيب المنطقة مغامرة غير محسوبة. لكنهم في الوقت نفسه، يرفضون إمرار الضربات الإسرائيلية الأخيرة من دون رد مناسب. وقد أعلنوا ذلك، هم و”حزب الله” في شكل واضح. وفي أي لحظة، هم سيباشرون ضرباتهم المقررة، بعد درس كل الانعكاسات المحتملة.
المشكلة هنا هي أن واشنطن، وفق قاعدة “ظالماً كان أم مظلوماً”، ستواصل إرسال الأساطيل والأسلحة والذخائر إلى إسرائيل، لمجرد أنها تعرضت لتهديدات إيرانية. بل هي ستشارك في أي قتال إلى جانب إسرائيل، دفاعاً وهجوماً، عندما تبدأ الضربات فعلاً، ما يجعل واشنطن جزءاً أساسياً من مشهد الحرب. وفي السابق، حاول نتنياهو مراراً دفع الأميركيين إلى إشعال حرب مباشرة ضد إيران فلم يستجيبوا، سواء خلال ولاية بايدن أو خلال ولاية دونالد ترامب.
اليوم، يحاول بايدن تعطيل أي مغامرة يراد منها خلط الأوراق مجددا على مستوى الشرق الأوسط بكامله. ومن المثير أنه يلقى تفهُّماً لدى خصوم واشنطن الإيرانيين، فيما الحليف نتنياهو هو الذي يدفع الأميركيين إلى الفخّ الكبير المنصوب.