عندما تنتهي الحرب في أوكرانيا، لن يعود العالم كما كان قبلها. فهذه الحرب تزعزع القارة الأوروبية في أعماقها، وهي الأكثر تأثيراً فيها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهذه الحرب هي أول منازلة مباشرة بين موسكو والغربيين، منذ انحلال الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية منذ نحو 30 عاماً.
مع اقتراب الحرب في أوكرانيا من إكمال عامها الأول، تتعمق الأضرار خصوصاً في أوروبا. وهي لا تقتصر على الخسائر الهائلة في الاقتصاد، بل تتعلق خصوصاً بانقلاب الكثير من الأوروبيين على أنفسهم وأفكارهم، وانزلاق المناخ السياسي في القارة العجوز نحو اليمين المتطرّف. وإذ يبدو الأوروبيون منهكين في الحرب، فإن طرفين على يمين القارة الأوروبية ويسارها يتنازعان هناك: واشنطن جو بايدن وموسكو فلاديمير بوتين.
كانت مرحلة دونالد ترامب، بين 2016 و2020، ذهبيةً لجهة التناغم بين رأسي السلطة في واشنطن وموسكو، لكنها كانت سيئة على أوروبا، على عكس ما هو حاصل اليوم. وباستثناء الحدّ الأدنى من العلاقة التي كانت جيدة بين إدارة ترامب وحليفه بوريس جونسون في بريطانيا، فقد كانت العلاقة مع غالبية الحلفاء الأوروبيين في الحضيض، لا سيما مع إنغيلا ميركل وإيمانويل ماكرون.
ولذلك، تلقّف هؤلاء فرصة وصول بايدن إلى السلطة لتصحيح «الخلل»، فعاد الدفء إلى العلاقة بين الحلفاء على ضفتي الأطلسي. وجاءت حرب أوكرانيا لتكرِّس التعاون.
ولكن، من دون شك، تخوض الولايات المتحدة هذه الحرب، عن بُعد، فقط بتوفير السلاح والتغطية السياسية للأوكرانيين. وأما أوروبا فتخوض حرباً على أرضها، وتهدّدها جدياً في خاصرتها الشرقية، وقد كلفتها حتى اليوم مئات مليارات الدولارات، في شكل خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة.
لقد نسفت الحرب استقرار الأوروبيين، فباتوا قلقين على المصير، هم الذين جرّبوا الحروب على أرضهم ودفعوا غالياً جداً ثمن تقاتلهم في الحربين العالميتين، وانتظروا عشرات السنين حتى نضجت لديهم أفكار السلام، وتجاوزوا الانتقامات، وتعاهدوا على الانفتاح والتعاون ضمن أوروبا الموحدة.
اليوم، يُطرح السؤال في كل بلد أوروبي: ما هي مصلحتنا في أن نربط مصيرنا بمصير الأوكرانيين مثلاً أو سواهم؟ ولماذا نتكبّد هذه الأكلاف الباهظة ونعرّض بلداننا للخطر دفاعاً عن الآخرين؟
وفي البلدان الغنية والقوية، كألمانيا وفرنسا، يسأل بعض الرأي العام عن المصلحة في الانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث تذهب أموال المواطنين لدعم آخرين في دول الاتحاد الأكثر فقراً. ويبدون استياء من حصول الكثير من «الغرباء» على الجنسية بسهولة في هذه الدول، فيصبحون مواطنين أوروبيين تلقائياً. وفوق ذلك، يؤدي تخاذل الحكومات إلى مضاعفة أعداد اللاجئين وأعبائهم.
وهذا الاتجاه يقود إلى تثمير سياسي واضح، وآخذ في التنامي في السنوات الأخيرة: صعود اليمين المتطرف في شكل لافت، ومتسارع منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا:
– في فرنسا، حققت مارين لوبان نتائج غير مسبوقة في مواجهتها مع ماكرون، على رغم عدم فوزها بالرئاسة (58.5 % مقابل 41.5 %). ودخلت بـ89 مقعداً إلى الجمعية الوطنية، وهي أكبر كتلة يحظى بها «التجمع الوطني» منذ العام 1986.
– في ألمانيا، تشير الاستطلاعات إلى نمو سريع لـ»حزب البديل» اليميني المتطرف، خصوصاً في المناطق الشرقية، مقابل تراجع الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يقوده المستشار أولاف شولتز.
– في إيطاليا حقق اليمين المتطرف انتصاراً ساحقاً أتاحَ وصول جيورجيا ميلوني إلى السلطة.
– في المجر، مجدداً فاز الحزب القومي الذي يقوده رئيس الوزراء فيكتور أوربان بالانتخابات التشريعية التي جرت في الربيع الفائت. وحقّق الغالبية الساحقة في البرلمان، متحالفاً مع الأحزاب اليمينية المتطرفة.
– في السويد أيضاً، حقق اليمين المتطرف واليمين المحافظ الليبرالي فوزاً في انتخابات أيلول الفائت.
وفي موازاة هذا الاتجاه في أوروبا، حقّق الحزب الجمهوري انتصاراً في الانتخابات التشريعية النصفية، ولو جاء فاتراً. فقد حافظ الديموقراطيون على مجلس الشيوخ، فيما أظهرت النتائج حتى اليوم أن الجمهوريين حصلوا على غالبية ضعيفة في مجلس النواب.
لم تتحقق التوقعات بحصول «موجة حمراء» في هذه الانتخابات. ولكن، على الأرجح، لا تعني هذه النتائج ضعف الجمهوريين بقدر ما تتعلق بمسألتين أخريين: الأولى هي استثمار الديموقراطيين لملف اجتماعي حساس هو الإجهاض، والثانية هي شخصية ترامب المثيرة للجدل حتى داخل الحزب الجمهوري والتنافس الذي جرى بينه وبين حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتوس للحصول على تبنّي الحزب كمرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي الحقيقة، دي سانتوس يمكنه أن يتباهى بأنه هو مَن حقق الفوز التاريخي للجمهوريين في مجلس النواب وليس ترامب. وقد قاربَ الفارق بينه وبين المرشح الديموقراطي المليون ونصف المليون صوت. وهذا أوسع هامش يحققه حاكمٌ لفلوريدا في الانتخابات منذ أربعة عقود. وبديهي أن يكون لهذه النتيجة تأثيرها على خيارات الجمهوريين فيما يتعلق باختيار مرشح الحزب للرئاسة.
لذلك، احتمال عودة الجمهوريين إلى السلطة، في العام 2024، واردة، من خلال ترامب أو دي سانتوس. وحتى ذلك الحين، سيضبط الجمهوريون هامش الحركة التي تمتّعت بها إدارة بايدن في العامين السابقين من الولاية.
هذا النمو لليمين، عبر العالم، يناسب بوتين. فاتجاه الدول الأوروبية إلى التقوقع يتيح له استفراد أوكرانيا وربما دولاً أوروبية أخرى مجاورة. ولكن، ماذا عن الشرق الأوسط حيث إسرائيل أيضاً اختارت الكنيست والحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخها؟
الأرجح أن مناخات التطرف دولياً وإقليمياً ستنعكس في الشرق الأوسط تعطيلاً للاتفاق المحتمل بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي، ومزيداً من الضغط لتوسيع دائرة «اتفاقات أبراهام»، وتشدداً إضافياً في التعاطي مع الملف الفلسطيني.
والأخطر هو احتمال إغراق الكيانات الشرق أوسطية الهشّة في المزيد من النزاعات العرقية والطائفية والمذهبية. ومن هذه الزوايا يمكن تقدير الانعكاسات المحتملة على لبنان، ما دام أركان السلطة فيه يمارسون لعبة الرهان الانتحاري على الوقت وانتظار التحوُّلات.