Site icon IMLebanon

حرب على الحضارة وعلى شعوب المنطقة

يعود الحديث عن صراع الحضارات؛ أول من استخدم التعبير برنارد لويس، المؤرخ وملهم المحافظين الجدد؛ ثم بلوره صاموئيل هانتنغتون في مقالة شهيرة في مجلة فصلية، («فورين أفيرز»)؛ ثم وسّعها في كتاب يحمل اسم «صراع الحضارات». المفهوم هو في واقع الأمر يحمل معنى استراتيجية عسكرية للنظام الدولي ومن يقوده بعد انتهاء الحرب الباردة، وليس تعبيراً عن مجمل الوقائع الاجتماعية حول العالم. الحضارات لا تتصارع. القوى السياسية، الدول، هي التي تتصارع وتشن الحروب. والدولة التي أصبحت قطب العالم الوحيد بعد الحرب الباردة تحتاج إلى عدو.

حرب الحضارات هذه مركزها المنطقة العربية من مغربها إلى مشرقها. ليست صراعاً بين قوى متكافئة بل هي حرب يشنها طرف واحد على منطقة متهمة بإنتاج التكفيريين والإرهابيين. هذه منطقة تعتبر «بيئة حاضنة» للتكفيريين والإرهابيين. والحرب التي تشن ضدها تتحالف فيها القوى الكبرى الإقليمية مع أنظمة الاستبداد العربي. خرجت شعوب هذه المنطقة إلى الميادين في العام 2011، ظهر أن لها إرادة، وأنها تريد أن تحكم بطريقة مغايرة، وأنها ترفض الاستبداد، وأنها ترفع شعار «عيش، كرامة، عدالة اجتماعية»، بما معناه أن «الشعب يريد إسقاط النظام». يدافع النظام العربي عن نفسه بالثورة المضادة، ودعم الأنظمة القائمة، وإحلال أخرى مشابهة حيث سقط الحكام السابقون، وتثبيت الحكام الحاليين حيث لم يسقطوا.

الحرب الأهلية مستمرة منذ سنوات، منذ 2011. لم يتراجع الإرهاب ولم تتقلص المساحة التي يسيطر عليها التكفيريون. كأن المطلوب هو وجودهما وتوسعهما كي يكون للحرب الثقافية الحضارية مبرر. ما يجعل هذه الفرضية قابلة للتصديق هو أن «ولادة» الفرق التكفيرية والإرهابية كان في سجون الأنظمة العربية. لم تكن هذه السجون في يوم من الأيام بعيدة عن إشراف المخابرات الدولية. إطلاق المساجين والمجرمين عندما استعرت الحرب على الإرهاب والتكفيريين لم يكن حدثاً بريئاً. كثيراً ما استخدمت الأنظمة العربية المساجين الإرهابيين المجرمين في صراعاتها.

تنتج هذه الحرب عدداً كبيراً من المهاجرين، ربما كانت هي الهجرة الأكبر في التاريخ. يذهب معظمهم إلى أوروبا. بعضهم يتسلل إلى أميركا وأستراليا. تضج الفضائيات الإخبارية الدولية بأخبار وبرامج عنهم. ينزرع الخوف في الغرب من هذا الخطر البشري القادم من منطقتنا. بالطبع يذرف المذيعون الكثير من الدموع. وتعقد مؤتمرات دولية من أجل المساعدة. الأهم استراتيجياً هو خلق رأي عام مؤيد للحرب الثقافية ـ الحضارية التي تشن على هذه المنطقة. ليس ضرورياً أن يعرف هذا الرأي العام هل الحرب داعمة لأنظمة الاستبداد، ومدى مشاركة قوى الاستبداد فيها، ومدى تحالف الخصوم الدوليين فيها؛ أم أن هناك بعض تباينات في الرأي؟

ثم تأتي المؤتمرات الدولية للتفاوض بين الأطراف المتنازعة على الأرض، في جنيف وفيينا وغيرهما. على قوى المعارضة المشتتة، ذات «المبيت» خارج بلادها، أن تفاوض وفد السلطة الآتي من بلدها الأصلي. يفاوضون جميعهم باسم الشعب، ولا يدري أحد كيف جاؤوا بتفويض: من الشعب أم من القوى والدول التي أرسلتهم؟ مع كثرة المتفاوضين تبدو المطالب متناقضة مبلبلة مفككة ويسود التشوش العقلي والذهني لدى المشاهدين في المنطقة وخارجها. تبدو الأصالة فقط عند الوفد الآتي من بلده، من مصدر الاستبداد. تتماهى الأصالة مع الاستبداد ومع الوحشية.

تكتمل الصورة. هذه شعوب لا تعرف ماذا تريد، ولا كيف تحقق ما تريد. هي دائماً بحاجة إلى رعاية. بالطبع، يعبر عن ذلك كون راعي المفاوضات أجنبياً، ويعمل بتكليف أجنبي. هو المنقذ لهذه البلدان المسكينة من ثقافتها ومن حضارتها ومن الحضيض الذي أوصلها إليه وعيها. وعي هذه الشعوب لا يفترض أن يعبر عنه شعار «عيش، كرامة، عدالة اجتماعية»، بل تعبر عنه ثنائية بين الاستبداد من جهة وبين الإرهاب والتكفير من الجهة الأخرى. يغيب عن البال أن الإرهاب والتكفير هما الوليدان غير الشرعيين لأنظمة الاستبداد؛ كما يغيب عن البال أن أنظمة المنطقة العربية متكاملة، وأنها لا تتصادم إلا صراعاً على السلطة.

يبدو الوفد الآتي من «بلده» أصيلاً، الوفود الآتية من أمكنة خارجية أشبه بالغرباء عن وطنهم. الأصالة جزء من الثقافة والحضارة، يفيد ذلك في ربط الاستبداد بهذه الحضارة وجعله وليد تراثها وتعبيراً عن ثقافتها وحضارتها. المهم أن تكون البلاهة سيدة الموقف وأن تعتبر هذه الشعوب بلهاء. تصير هذه الشعوب، بحكم تأخرها وفقرها الذهني الموروث بحاجة إلى رعاية، انتداب، استعمار. راعي المفاوضات يمثل هذا الدور. تحتاج حرب الحضارة، الحرب على حضارة المنطقة، إلى أسلحة مادية وأسلحة ثقافية. تستخدم جميع الأسلحة في حرب عالمية. عالمية الحرب تستوجب أن يكون الاستبداد حليفاً. بعد ذلك يصير ممثله هو المفاوض الوحيد.

ما يبعث على الاستغراب، بل الريبة، هو تحضير برامج الإعمار قبل انتهاء الحرب الأهلية التي ربما استمرت سنوات، لسوء الحظ. الشركات المحلية لبنانياً وعربياً وأجنبياً تحضّر نفسها. بغض النظر عن الأرباح التي سوف تجنيها سوف يدفعها الشعب الذي أراد والذي تتقاتل الأنظمة والمعارضة باسمه. وضع الشعب ومطالبه على الرف خلال الحرب الأهلية؛ هو خارج هذه الحرب؛ كثرته الغالبة قالت كلمتها في 2011. لكن المطلوب منه بعد الآن دفع ثمن الحرب الأهلية لا من الضرائب وحسب بل من العمل كالرق في خدمة شركات الإعمار. على الشعب أن يكون أكثر تهذيباً في المستقبل وأن لا يطالب بما يحقق له العيش الكريم والحرية. عبوديته قدر له. والنظام المحلي والعربي مستمر إلى الأبد. انتصار الثورة المضادة إرادة دولية.

سوف تزداد المآسي والآلام مع استمرار الحرب الأهلية وبعدها. تعلمت الأنظمة التي لم تسقط من أخطاء الأنظمة التي سقطت. لن تكون هناك تظاهرات في الميدان، سيكون هناك خضوع واستسلام واسترقاق وحسب. هكذا تعتقد المنظومة العربية أنها سلمت بواسطة الثورة المضادة وتبني النظام العالمي لها.

لن تكون الشعوب العربية محرجة في الخيار بين الأنظمة من جهة و «داعش» و «النصرة» من جهة أخرى. لا هذا ولا ذاك. تعرف الشعوب أن واحدهما انعكاس للآخر. وتعرف أيضاً أن حركة التاريخ متعرجة، وأن هناك خطوات إلى الوراء وخطوات إلى الأمام على التوالي، وأن ثورة 2011 يمكن أن تتكرر بأشكال مختلفة.

الغالبون يكتبون التاريخ؛ بينهم أنظمة الاستبداد والاستعمار والطغاة. لكن الشعوب هي التي تصنع التاريخ. هناك فرق بين واقع يصنع وبين أوهام يكتب عنها. ستعرف هذه الشعوب كيف تصنع التاريخ مرات كثيرة أخرى.

حضارة تماهت مع التاريخ عبر قرون طويلة، وإن بمسميات مختلفة، سوف يكون لها البقاء.