الحرب على قطاع غزة مستمرة ، دمرت الآلة العسكرية المتطورة والحاقدة شمال القطاع وقتلت الآلاف من المدنيين ولم يرفع مقاتلو غزة الراية البيضاء طلباً للإستسلام، يحاول العدو الإسرائيلي دخول مجمّع الشفاء الطبي بحثاً عن انتصار بين أسّرة المرضى وأجساد الأطفال الخُدج التي أُخرجت من محاضنها بعد أن أُخرج الحصار والقصف المشافي من الخدمة.
تتكثف الجهود الدولية لإبرام صفقة تبادل مع حركة حماس لإطلاق سراح عدد كبير من الرهائن الأميركيين ومزدوجي الجنسية، مقابل إطلاق سراح نساء وأطفال فلسطينيين محتجَزين في السجون الإسرائيلية وتوفير الوقود لمستشفيات غزة، وزيادة عدد شاحنات المساعدات الإنسانية. تأتي هذه الصفقة التي لم تقوَ كل صنوف الإجرام التي مارسها الجيش الإسرائيلي على تحقيقها بالحديد والنار في أعقاب جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ثم جولة مدير الإستخبارات الأميركية وليام بيرنز، التي التقى فيها نظراءه في الموساد الإسرائيلي، وعدد من المسؤولين في الأردن ومصر وقطر. يؤشر هذا الحشد الدبلوماسي والأمني الذي سينضم إليه «بريت ماكغورك» كبير مستشاري الرئيس بايدن، أن وضع الصفقة المذكورة حيّز التنفيذ ليس فورياً وهي لن تقتصر على تبادل الرهائن بل ستتناول جوانب أخرى منها التمهيد لهدنة إنسانية طويلة في غزة، ووضع ضوابط تحول دون توسّع النزاع وتدخل أطراف إقليمية بشكل مباشر أو عبر وكلائهم.
الصفقة أضحت موضع إلحاح عربي عبّر عنه بيان القمّة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض في الحادي عشر من الشهر الجاري والتي تضمّن بيانها الختامي التزاماً بكسر الحصار عن القطاع، وإدخال قوافل المساعدات الإنسانية وتكليف لجنة تضمّ وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية الوازنة لإطلاق عملية سياسية دولية لتحقبق السلام العادل والشامل وفق المرجعيات الدولية. وهي موضع إلحاح من أكثر من دولة أوروبية تحوّلت شوارعها الى منصات دائمة لإطلاق المواقف المندّدة بالحرب والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار. وهي موضع إلحاح في الداخل الإسرائيلي حيث تتهم العائلات بنيامين نتنياهو بالسعي لإطالة أمد الحرب بشكل عبثي بغرض إطالة عمر الحكومة، وبعدم واقعية أهدافه المعلنة كتدمير حماس والسيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة، وتعبّر عن قلقها حيال الرهان على الجيش للقيام بذلك بالقوة مما يعرض حياتهم لخطر أكيد.
بالتوازي مع سعي نتنياهو الواضح لإطالة أمد الحرب وعدم الإعتراف بحراجة الموقف وإنسداد الأفق الميداني وإلزامية الذهاب الى تفاهمات سياسية، عبّر موقف مستجد لطهران أعلنه المتحدث بإسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، عن أربعة تحفظات على البيان الختامي للقمّة العربية الإسلامية بشأن الحرب في قطاع غزة. تتحفظ إيران كما أورد كنعاني على حل الدولتين، حدود 1967 ومبادرة السلام العربية، وكذلك حول ما ورد في البيان الختامي لجهة التأكيد على منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ودعوة الفصائل والقوى الفلسطينية للتوحّد تحت مظلتها، وأن يتحمل الجميع مسؤولياته في ظل شراكة وطنية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وبالفعل فقد ذهب الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الى جملة من الإستحالات النظرية التي تنسف كل المرتكزات التي قامت عليها عملية السلام ومبادرة القمّة العربية في بيروت 2002 حيث صرّح فور عودته الى طهران:«نحن في هذا الإجتماع، وخلافاً لما يقوله البعض بشأن مستقبل القضية الفلسطينية، في إطار حلّ الدولتين، لقد طرحنا حلاً ديموقراطياً قائماً على العودة لأصوات جميع الفلسطينيين، بما في ذلك المسلمين والمسيحيين واليهود، لتقرير مصيرهم». يستعيد الرئيس الإيراني بهذا التصريح ما سبق أن اقترحه المرشد الأعلى علي خامنئي حول إقامة استفتاء شامل في الأراضي التاريخية الفلسطينية، دون الإعتراف بإسرائيل.
تشكل تصريحات رئيسي أكثر من إنقلاب واضح على البيان الختامي للقمّة، وهي إنقلاب على الإستيعاب الإسلامي والعربي للصراع العربي الإسرائيلي الذي أكدته القمّة ومحاولتها إطلاق مسار دولي متجدد يرتكز على حلّ الدولتين ويؤكد فشل كل محاولات إنهاء القضية الفلسطينية عبر إفشال القرارات الدولية. لقد حاولت طهران منذ اندلاع الحرب على غزة التأكيد على نفي أي صلة لها بالهجوم الذي قادته حماس على مستوطنات غلاف غزة كما أكدت مراراً بعد تصاعد العمليات على القواعد الأميركية في المنطقة وانطلاق المناوشات بين حزب الله والقوات الإسرائيلية أن الفصائل والميليشيات المرتبطة بها «لا تتلقى الأوامر من طهران».
لقد رأت طهران في «طوفان الأقصى» فرصة سانحة للتدخل في الساحة الفلسطينية عبر قطاع غزة وفي تشكيل السلطة التي ستدير القطاع بعدأن تضع الحرب أوزارها. لقد رامت طهران من خلال الإنقلاب على مواقفها السابقة تقديم نفسها للولايات المتحدة بصفة الوسيط النزيه القادر على تسهيل التفاوض في غزة حين تدعو الحاجة بحكم ارتباط الفصائل بها ودعمها المزمن لقادتها. ينتظر رئيسي تجاوب الفصائل المقاتلة في غزة مع انقلابه على بيان القمّة العربية الإسلامية ورفضها للتسويات القادمة، بما يفضي الى استمرار القتال لأسابيع وبما لأشهر وتمدده الى جنوب القطاع والى التقاطع مع ما يرومه بنيامين نتنياهو وإن على دماء الفلسطينيين.