حرب جديدة في سوريا تسبق الحل. حرب لسنوات أخرى، تضاف إلى ما قبلها. «التحالف الدولي الثاني» المزمع إنشاؤه مرشح لقتال جدي ضد «الدولة الإسلامية في العراق والشام». تحالف الأضداد، هو حلف الضرورة. موسكو وواشنطن وطهران وباريس والرياض ولندن إلى جانب قوات النظام السوري ومن معه من «الأنصار»، سيخوضون معارك جديدة بأسلحة جديدة وتنسيق اختياري فوق جغرافيا مختلفة، براً وجواً… عسى أن يتغلبوا على «داعش» وأشباهه.
حرب تسبق الحل. اتفاق البنادق معزول عن آلية الحل. بشار الأسد شريك في القتال حتماً. شراكته في الحل موضع نزاع. عقدة قديمة مستحكمة تنذر بحرب غير محسوبة النتائج. فكيف تكون حرب ولا يكون حل؟
تأخر موعد الحل السياسي في سوريا. قد يتأخر أكثر. الذين في انتظاره قد لا يتعرفون على بلادهم. بلاد تغيَّرت ولا تشبه صورتها «الفاضلة»، يوم كانت في طريقها البديهي إلى وطن «الياسمين» فوق جغرافيا الحرية.
أقفلت الأبواب. خذلت البنادق الوعد. ودَّعت سوريا أسلافها وتراثها، وباتت في حضرة الماضي. تعرّضت، على مدى خمس سنوات إلا قليلاً، لتحرُّش القتل والفتك. عرفت «فتوحات» البشاعات وأنواع الموت وسواسية العذاب ومشاعية الاقتلاع والبحث عن المجهول المخيف. ولم يربح أحد بعد. وسوريا، شعب من الخاسرين في كل بلاد يهيمون ولا يصلون.
من لم ير ذلك بعد، يسمي الخسارة انتصاراً. هي من عادات بابل، أن يستوي الجلاد والضحية في تصفية الحساب، وأن تكون اللغة طائشة عن معانيها.
من يُريد صناعة الأمس، يقُول: «عفا الموت عما مضى». ولكن لا. لأن سوريا الشاهقة في موتها، لا تستعيد حياتها بالقطعة. لا تسترد وجودها بالقسمة. لا تتوحد وتتحد وهي موزعة المفاصل على المعازل. معازل الطوائف والمذاهب والأقوام، وهذه، تزدهر «أوطانها» الكرتونية، في «الخيام الموعودة».
لنقترب من الحالة: القتلى كانوا أرقاماً. امّحت الأسماء. الفظائع «الداعشية» وارتكابات «النصرة» بلغت حدوداً غير مسبوقة. «براميل» النظام، أسلحة «الدفاع عن النفس»، أمطرت موتاً عمومياً وخراباً ينتمي إلى لوائح المدن المقصوفة في الحرب العالمية الثانية… تحوَّلت الحرب السورية إلى روتين وتمرين يومي على التنافس بين الفادح والأفدح. لكل فريق علمه وخريطته ومذهبه وساحات قتاله. ولكل فريق حليفه وداعمه ومموّله ومذخّره وحاضنه. حرب العالم على سوريا وفي سوريا وضد سوريا، وزعت السوريين فباتوا شعباً يبحث عن ضفاف في البعيد البعيد. يقرعون أبواب أوروبا الخائفة من «داعش». قادة هذه الحرب في الفريقين، سيقودون متأخرين حروباً أخرى والحل ضبابي. فما بقي من سوريا، قد لا يُعاد توحيده ويصعب تركيبه.
لنقترب من الحالة أكثر: ما بقي من سوريا متنازع عليه. الاتفاق على «داعش» يوازيه الخلاف على «الأسد». لا حرب من دون «الأسد» ولا اتفاق سياسياً معه أو من دونه. عقدة مزمنة تتجدّد. سبق أن راهن حلف إسقاط الأسد على معارضات بصيغ إسلامية وعسكرية، لم يبقَ منها على الساحة غير «داعش» و «النصرة» وأشباههما. كان الخطر من استمرار النظام وصارت الأخطار كلها من معارضيه غير السلميين. سبق ذلك أن بات «داعش» دولة إقليمية عظمى، لا تقوى عليها أي دولة في الإقليم. هي «الدولة» الوحيدة التي تقاتل الجميع، على الجبهات المفتوحة كلها، ولا تخسر. دولة لا حدود لها. حدودها حيث مرمى بنادقها ونيرانها. ولا قدرة لتحالف جوي على تقليصها أو هزيمتها. أقلّه، حتى الآن… بلغ عندها التحدي أن اقتحمت أوروبا، وبدّدت جيش العراق وقلّصت جيش النظام في سوريا، وهدّدت مواقعه «المفيدة» وبلغت تخوم لبنان، وانتشرت في الخليج، وعسكرت في ليبيا، واستقرت في اليمن و… لا قوة قادرة على قتال «داعش» بفعالية ميدانية، غير ما تبقى من جيش النظام في سوريا، وما يتأهل من جيش مفكّك في العراق، مع «حشودهما الشعبية»، بشرط أن يكون طيران التحالف كله في خدمة الاستراتيجية القتالية في الميدان. الجيش السوري عاجز وحده. ومعارك الشهور الخوالي، تشهد على انسحاباته من مواقع حساسة.
لنقترب من الحالة أكثر: روسيا ليست أرثوذوكسية وفرنسا ليست كاثوليكية وأميركا ليست مسيحية وهكذا… عندنا، لكل دولة دين أو مذهب يفرض عليها سياستها وتحالفها. هذه دول تصدّر المشكلات ولا تحلها. لا حل يرجى من سعودية سنية وهابية، ولا من إيران شيعية ولا من تركيا إخوانية. هي كلها مشتبكة في الحرب السورية. وحدها روسيا بقيادة قيصرها العلماني قادرة على وصل ما انقطع بين دول الإقليم. لها قنوات اتصال مريحة مع السعودية وإيران والعراق والنظام وطهران، وهي في الوقت نفسه تشكل حاجة إلى أميركا والغرب. ولذلك «تحقق المستحيل»: حلف الأعداء، ضد العدو «الداعشي»، وخلاف حول بشار الأسد، قبل وإبان وبعد.
ألم يكن ذلك ممكناً قبل عام؟ قبل عامين؟ منذ البداية؟
إن للسياسة والأنظمة «أخلاقاً» لا ترحم.