يخوض حزب الله، في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، معركة انتزاع الحق اللبناني في نفطه وغازه في وجه شهية العدو الواسعة للاستيلاء على الثروة الغازية، بالتوازي مع معركة رفع الفيتو الأميركي الذي يحول دون عمل شركات التنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية اللبنانية.
في الاتجاهين، الترسيم والتنقيب، أعلن حزب الله معادلة «المنع بالمنع والاستخراج بالاستخراج»، أياً تكن النتائج والتداعيات، وصولاً إلى التصعيد والمواجهة العسكرية، بل وإلى الحرب الشاملة نفسها، مؤكداً أن قرارَي، التهدئة والحل كما التصعيد والحرب، باتا في الملعب الإسرائيلي، وهما يتحددان وفقاً لإرادة إسرائيل نفسها. إذ لا خيارات كثيرة أمام الحزب، ولا إمكان للتراجع عن مطلبه.
إظهاراً للجدية، قرّر حزب الله التوجه إلى تنفيذ وعيده تدريجاً، مع علمه أن الوقت بات داهماً ومرتبطاً باستحقاق استخراج الغاز من حقل «كاريش»، كما هو معلن لدى العدو. والتدرّج في تظهير الجدية جاء عبر الموقف ثم التحذير فالرسائل العملية المعلنة، وغير المعلن منها أيضاً.
في المقابل، كانت إسرائيل تتحرك وفقاً لتقديرات مغلوطة هي أسيرة نماذج تفكير كان يفترض بطاولة التقدير والتخطيط في تل أبيب الإقلاع عنها منذ زمن بعيد كنتيجة طبيعية لصراعها الطويل في مواجهة الحزب. فحتى الأمس القريب، كانت إسرائيل تراهن على إمكان السير قدماً في مخططاتها على خطين من دون أن تلقى ردّاً جاداً من حزب الله: قضم الحدّ البحري برضوخ لبنان أو بفرض الإرادة ميدانياً، ومنع لبنان من الاستفادة من ثرواته عبر الفيتو الأميركي على شركات التنقيب.
كانت الاستراتيجية الإسرائيلية، كما الأميركية، تأمل، وإن بحذر، بأن اللبنانيين، وتحديداً بيئة حزب الله المباشرة، ستنقلب على خيار المقاومة، ما يضعف مكانتها وموقفها وقدرتها على التحرك لمواجهة إسرائيل. لم يكن العدو يراهن على «إنهاء» حزب الله والمقاومة كما كان عليه التقدير في أميركا، لكنهما اشتركا في حدّ أدنى من التقديرات: حزب الله سيكون ضعيفاً، وسيصعب عليه استخدام قدراته لمواجهة إسرائيل، ابتداء أو رداً، ومنعها من سلب لبنان حقه البحري.
حتى الأمس القريب، وربما أيضاً إلى ما بعد عملية المسيّرات، كان على طاولة القرار في تل أبيب من راهن على أن الحزب، نتيجة ارتداعه و«انضغاطه» شعبياً، لن يتحرك فعلياً خارج دائرة إثبات الذات، ومن دون الإضرار الفعلي بإسرائيل. ولكن، بعد خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، يُفترض بأن يكون العدو قد عدّل تقديراته. وإلا فإننا، وفقاً للمعادلة وللموقف الذي أعلن على لسان نصر الله، عشية مواجهة قد تفضي إلى تصعيد ميداني، من دون استبعاد أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية.
التعاطي الإسرائيلي مع التطورات الأخيرة يشير إلى أن هذه التقديرات تراجعت وأصبح التعامل مختلفاً مع تهديدات حزب الله. باتت إسرائيل أمام استحقاقات، قد يكون أسهلها وأقلها سلبية بالنسبة إليها، التراجع في الحد البحري كما يريد لبنان، إلى الخط 23 أو ما وراءه أيضاً. ومن هذه الاستحقاقات:
– التراجع عن الخطوط التي وُضعت لسلب لبنان ما أمكن من ثرواته، والقبول بالخط 23 بعد أن بات الخط 29 مستبعداً لبنانياً من على طاولة التفاوض غير المباشر. في هذا المطلب، وقياساً إلى ما سيكون عليه الوضع إذ لم تُلبَّ طلبات حزب الله، ستفضّل إسرائيل التنازل درءاً لسلبيات أكبر وأوسع وأكثر أضراراً بما لا يقاس.
– التراجع عن الفيتو الأميركي على شركات التنقيب في البحر اللبناني. أي، عملياً، التراجع عن استراتيجية الولايات المتحدة التي تهدف إلى خنق اللبنانيين والبيئة المباشرة لحزب الله لدفعهم إلى الانقلاب على المقاومة. وهي استراتيجية كانت محل رهان أميركي رئيسي في الفترة الماضية مع آمال مرتفعة بإخضاع حزب الله.
في الواقع، كانت إسرائيل مرحّبة بهذه الاستراتيجية، لكنها كانت حذرة منها، ورأت أن الاستفادة منها محدودة ولا تكفي بذاتها وأنها حمّالة نتائج متناقضة: القليل من الضغط الاقتصادي لن يؤثر في حزب الله، والكثير منه من شأنه أن يدفعه إلى فعل لم يكن ليقوم به، وأن الضغط الزائد على لبنان وبيئة حزب الله المباشرة قد يطلق العنان لرد فعل قاس من حزب الله نفسه. وفي هذه النقطة تحديداً، يمكن لإسرائيل المناورة وطلب تخفيف الضغوط التي وصلت إلى حدّ بات مضراً بأصحاب الضغط أكثر من إضراره بمن هم تحته. وكلمة نصرالله الأخيرة مصداق نظري وعملي على هذه النتيجة.
– أصعب ما يواجه إسرائيل هو أن تتراجع، وأن يكون هذا التراجع نتيجة لعامل واحد ووحيد: تهديد حزب الله بالخيارات العسكرية. هذه النقطة تحديداً هي ما يثقل على القرار الإسرائيلي، وإلى جانبه الأميركي. فلا هما قادران على منع تفعيل تهديد حزب الله باستهداف حقول الغاز الإسرائيلية حيث النتائج ستكون أكثر من كارثية، مهما كان الثمن الذي سيدفعه لبنان في المقابل، فيما الكارثة المضاعفة هي الخضوع لإملاءات حزب الله بوصفه مقاومة مسلحة ضد إسرائيل، استطاع انتزاع حق لبناني من شأنه إنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية، وتحديداً عبر السلاح.
إذا كانت طاولة التقدير في تل أبيب سوية، فهذه هي المقدمات التي ستملي عليها القرار الذي سيكون، من ناحية منطقية، واحداً من اثنين: التراجع بلا تصعيد أو تراجع مع تصعيد.
تخبّطت المقاربة الإسرائيلية منذ بدء تهديدات حزب الله والمسيرّات وما بينهما. في حين أن المعضلة على حالها. إلا أن أهم الأسئلة الإشكالية كان ولا يزال، وحتى موعد الاستحقاق الفعلي الذي يجب أن لا يكون بعيداً: كيف نتراجع من دون أن تبدو إسرائيل وكأنها تراجعت نتيجة ضغط حزب الله وتهديده عسكرياً؟
من هنا، يمكن تفسير كثير من المواقف الإسرائيلية التي اتسمت بها مقاربة العدو في الأسابيع الأخيرة:
– الصمت أمام التهديدات. وهو صمت غير معتاد وغير مفهوم قياساً بـ«جينات» إسرائيل التي قامت واستمرت على التهديد وقمع الآخرين واستخدام مفرط للقوة لتحصيل ما تدعي فيه حقاً لها.
– في مقابل التهديدات، ومنها استهداف إسرائيل ومقدراتها الاستراتيجية، التأكيد على تفضيل الديبلوماسية والحلول التسووية، وهي ملاحظة ينبغي الوقوف عندها طويلاً.
– الإعراب عن الأسى والحزن و«انفطار القلب» على اللبنانيين الذين يعانون من أزمة اقتصادية حادّة. وهو ما صدر، بالجملة وعلى دفعات، على ألسنة مسؤولين إسرائيليين. والحديث كذلك عن أن إسرائيل مستعدة للتنازل عن جزء من حقوقها وثروتها على أن «يحلّ عنها» لبنان، مع مطالبة الأميركيين بفرض عقوبات على الاقتصاد اللبناني ما لم يرض اللبنانيون بالتنازلات الإسرائيلية.
أصعب ما يواجه إسرائيل هو أن تتراجع تحت إملاءات حزب الله بوصفه مقاومة مسلحة تنتزع حقاً لبنانياً عبر السلاح
أخيراً، بعد أن قرب الاستحقاق، كان على إسرائيل تقديم ردّها واقتراحاتها بعد التهديدات التي، وحدها، ما يدفع الإسرائيلي إلى «التنازل». المواقف التي صدرت عن كل من رئيس حكومة العدو يائير لابيد ووزير أمنه بني غانتس، أثناء زيارتهما للمنطقة الشمالية أمس، في غياب رئيس الأركان الذي يحل ضيفاً على المغرب «الشقيق»، تضمّنت إشارات غير مباشرة إلى كل ما ورد أعلاه، إضافة إلى نبرة تهديدية لم تخرج هذه المرة من عقالها. وكان لافتاً فيها أنهما لم يواجها تهديدات حزب الله بتهديدات متناسبة إلى الحزب واللبنانيين كما جرت العادة، بل عمدا إلى تحذير اللبنانيين من التصعيد إن تسبب به حزب الله، وهو ما ينضوي في سياق تأليب الداخل على الحزب. كما شددا على إرادة التسوية والحلول السلمية من دون تصعيد عسكري، وعلى أن إسرائيل ستحافظ على أمنها وتمنع الإضرار بمقدراتها. وهما أرادا، من خلال وجودهما المباشر على الحدود، إظهار إرادة الصمود أمام الضغوط، وإرادة المواجهة إن لزم الأمر، وإن كانت هذه رسالة موجهة أيضاً للداخل كما إلى الطرف الآخر في لبنان.
وعلى خلفية مضمون تصريحات لابيد وغانتس، وهي حمّالة أوجه وغير ملزمة لهما في أي اتجاه قد تدفع إليه التطورات، يصبح السؤال مشروعاً: هل الرد الإسرائيلي، بمعنى اقتراح الحل البحري، سيصل قريباً إلى لبنان؟ وهل في هذا الرد ما يلبي جزءاً من المطالب اللبنانية ويهمل أخرى؟
إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني مراوحة من دون تلبية كاملة لما يطالب به لبنان. وهو تأجيل فقط، من دون إلغاء للاستحقاق. إلا أن هذا ما يتوقع من إسرائيل التي ستستخدم كل ما لديها من خيارات، ومن بينها جرّ «العالم» ليفرض لها حلاً مع لبنان، بما لا تستطيع هي فرضه، كما يفهم من كلام لابيد أمس، بأنه يمكن لحقل «كاريش» أن يساهم في حل أزمة الطاقة في العالم. علماً أن تدخل الآخرين لفرض أو إيجاد حل هو فرصة للبنان وليس تهديداً له، ويشير إلى محدودية الخيارات أمام إسرائيل. هذا الخيار وغيره، لن يغيّر المطلب اللبناني من العدو الذي سيكون في نهاية المطاف أمام واحد من خيارين: الحل مع تصعيد، أو الحل بلا تصعيد. والزمن يضيق.