توحي المعطيات الإسرائيلية بمصادرها المتنوعة، أن الحرب بين حزب الله وإسرائيل لا مفر منها. وآخر ما صدر في هذا السياق تقرير معلق الشؤون الأمنية في موقع يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، الذي أكد أنه «من فترة ليست طويلة، أعدّت قيادة المنطقة (الشمالية)، تحديثاً شاملاً وإبداعياً للخطط الهجومية والدفاعية».
ومما يلفت أن الإسرائيليين الذين يؤكدون أن ليس من مصلحة حزب الله فتح جبهة ثانية مع الجيش الإسرائيلي في الوقت الذي يخوض معركة وجود دفاعاً عن لبنان وشعبه في مواجهة الخطر التكفيري، يتحدثون أيضاً عن أرجحية نشوب ما يسمونه حرب لبنان الثالثة. ويعود ذلك إلى أنهم يرون في المعركة الدائرة على الأرض السورية، ودور حزب الله فيها، ظرفاً مثالياً لتوجيه ضربات مدروسة ومحدَّدة تستهدف قدرات حزب الله، انطلاقاً من تقدير مفاده أنه ليس من مصلحة حزب الله الرد التناسبي على مثل هذه الضربات.
ينبغي التأكيد أن نشوب الحرب لا يحتاج إلا إلى إرادة أحد أطراف الصراع القادر على فرضها على الآخرين. بينما يحتاج الهدوء إلى إرادة جميع الأطراف، بصرف النظر عن أسباب كل منهم. ولا يصح استبعاد إمكانية نشوب الحرب مع إسرائيل، أو الجزم بها، بشكل مطلق. ويعود ذلك إلى أن عدم مبادرة أحد الأطراف، وتحديداً إسرائيل، إلى شنها أو الدفع باتجاهها، مرتبط بعوامل وظروف ومعادلات محدَّدة..
لم يبقَ التقدير الإسرائيلي بشأن مثالية الظرف الإقليمي لشن اعتداءات متعددة المستويات والأهداف، في إطاره النظري، بل تحول إلى خطط وقرارات واعتداءات نفذها جيش الاحتلال في سوريا ولبنان.
عندما حاول العدو التمدد بعدوانه باتجاه لبنان لم تكن حسابات صناع القرار في محلها
في سوريا اعتبر حكام تل أبيب أن تقديرهم كان صحيحاً إلى حد ما، والدليل على ذلك أن محور المقاومة امتنع عن الرد المباشر والتناسبي تجنباً لفتح جبهة جديدة في هذه المرحلة. مع الإشارة إلى أن العديد من التقارير الإسرائيلية شككت بجدوى الضربات التي نُفِّذَت حتى الآن. ووصف أحد هذه التقارير «الإنجازات» التي سجلها الإسرائيليون بأنها «نقطة في بحر» قدرات حزب الله.
لكن عندما حاول الجيش الإسرائيلي التمدد بعدوانه باتجاه لبنان لم تكن حسابات صناع القرار في محلها. إذ عندما عمدوا إلى محاولة جس نبض حزب الله، وتمثل في حينه باعتداء جنتا مطلع عام 2014، ردت المقاومة باستهداف إحدى دوريات جيش العدو في مزارع شبعا. ثم أتى رد حزب الله أيضاً على اعتداء القنيطرة (مطلع العام الجاري) بصواريخ استهدفت موكباً إسرائيلياً، وهو ما أكد لصانع القرار في تل أبيب أن المدى الذي ذهب إليه في رهاناته كان مبالغاً فيه. وبناءً على ذلك، باتت القيادة الإسرائيلية على قناعة بأن لحزب الله خطوطاً حمراء، يمنع تجاوزها بالرغم من المعركة التي يخوضها في مواجهة الجماعات التكفيرية في سوريا والجرود اللبنانية. وأبرز تجلٍّ لهذا الفهم ما نقلته صحيفة يديعوت أحرونوت (30/7/2015) عن الاستخبارات الإسرائيلية بأن «من يعتقد بأن قتال حزب الله في سوريا سيردعه عن ردود يمكن أن تؤدي إلى حرب شاملة، عليه أن يعيد حساباته».
ويمكن التقدير، بل الجزم بأنّ فهم الإسرائيليين لردود حزب الله، هي التي حالت حتى الآن دون مغامرة بشن اعتداءات أوسع في لبنان.
مع ذلك، ترى إسرائيل أن مجمل التطورات الإقليمية تنطوي على تهديدات وفرص أيضاً. وفي ضوء ذلك، تحافظ على حالة ترصد وتوثب استعداداً للانقضاض في اللحظة المناسبة. لكن مشكلة العدو أن حزب الله أيضاً يحافظ على حالة التوثب للرد على اي اعتداء إسرائيلي. وأبرز معطى عملي أكّد هذه الحقيقة ردُّ حزب الله الأخير في مزارع شبعا بعد عدوان القنيطرة، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى مواجهة أوسع لو اتخذ العدو قراراً بتوسيع دائرة اعتداءاته. يُضاف إلى ذلك أن حزب الله قرن رده في حينه بالاستعداد للرد التناسبي على أي رد إسرائيلي، وهو ما أدركه صانع القرار في تل أبيب في حينه، من ضمن أمور أخرى، عبر «البيان رقم واحد»، ومستوى جاهزية حزب الله العملانية استعداداً للمواجهة، الأمر الذي دفع العدو إلى التراجع والانكفاء.
في ضوء ما تقدم، تجد تل أبيب نفسها أمام واقع مركب. من جهة، تفترض أن التطورات الإقليمية والسورية، إلى ما قبل الدخول الروسي الذي لم تكتمل معالمه وتداعياته، توفّر لها فرصة لتحقيق إنجازات استراتيجية في مواجهة حزب الله، بأقل الاثمان. ضمن هذا الإطار، أقرت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أنه بفعل سرعة التغيرات، بات من الصعب الركون إلى الخلاصات التي تتوصل إليها تقديراتها السنوية. وافترضت بدلاً من ذلك أن هذه التقديرات قد تكون ذات صلة لمدة ستة أشهر فقط. وبحسب رئيس وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية العميد إيلي بن مائير، بات احتمال الوقوع في الخطأ أكثر مما كان في الماضي.
على خط مواز، لمس العدو وجود قرار نهائي بالرد بما يتناسب على أي اعتداء. وهكذا بات على صانع القرار في تل ابيب أن يأخذ بالحسبان إمكان تعرّض جبهته الداخلية العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية لضربات صاروخية لم تشهد مثلها طوال تاريخها، إذا ما قرر شن اعتداءات واسعة.
ومن أبرز مفاعيل هذا الواقع المركب من تهديدات وفرص، على رؤى القيادة الإسرائيلية وتقديراتها، أن المعادلات التي تحكم حسابات المواجهة مع حزب الله في الظروف الحالية، تكشف عن لا حتمية الحرب مع حزب الله ضمن المدى المنظور.
في الجهة المقابلة، إن تطور الأحداث الإقليمية وسرعتها وحجم القلق من التداعيات غير النووية للاتفاق النووي مع إيران، والقراءة الإسرائيلية لمآل التطورات، تجعل سيناريو اتخاذ تل أبيب قراراً عملانياً يتجاوز السقوف التي رسمها حزب الله ــ بناءً على تقدير خاطئ لردوده ــ ممكناً ولا يمكن استبعاده.
أما بخصوص مفاعيل الدخول الروسي المباشر على خط المواجهة في الساحة السورية، فهو مسار لم تكتمل معالمه لحد الآن ولم تتبلور كافة تداعياته، وسيكون له أثره على أي قرار إقليمي أو دولي يتصل بالساحة السورية وحتى اللبنانية.