هذه حرب عالمية من نوع آخر: فوق تلك «الباردة» التي انتهت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وتحت تلك المباشرة والمستحيلة بين «الكبار» تبعاً لمخاطرها الإفنائية.
وليست «الحرب على الإرهاب» هي المقصودة بالتوصيف. وإنما «حرب الإرهاب» التي تُشنُّ بوتيرة تصاعدية ضد دول ومجتمعات وقيَم ونظُم في الغرب، على ما تكرر بالأمس في قلب لندن.
.. إحتاج أمر الكشف عن طلاسم وأسرار الإرهاب اليساري الذي استشرى في أوروبا الغربية تحديداً، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، الى انهيار «المعسكر الاشتراكي» فوق رؤوس أصحابه! وبدء خروج الدفاتر الفضّاحة من أقبية «الأجهزة المختصة» في بعض أنظمة ذلك المعسكر، وتحديداً من بلغاريا وألمانيا الشرقية. والتي كشفت حبلاً واحداً يربط الجماعات الإرهابية المتعددة الهويات وعملياتها وأهدافها.. وذلك الحبل كان ممسوكاً من طرفه في موسكو نفسها. وفي أيدي يوري أندروبوف شخصياً عندما كان رئيساً لجهاز الاستخبارات السوفياتية (كي.جي.بي) قبل أن يتدرّج صعوداً ليصل الى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي ويبقى فيه حتى وفاته في العام 1984.
حتى العمليات «الخارجية» ذات الصلة بالنزاع العربي – الإسرائيلي، والجماعات التي نفذتها، كانت موصولة بذلك «المركز»، وإن تعددت مرابطها الاقليمية، من ليبيا الى العراق الى سوريا الى اليمن الجنوبي وغيرها.. كان «الإرهاب الثوري» (الفلسطيني والعربي) جزءاً من عدّة النزاع مع الغرب وليس معنياً فقط بالقضية الفلسطينية، الأهم والأبرز في تلك الأيام!
وحدها (ربما؟) «الألوية الحمراء» الايطالية كانت مُخترقة من قبَل الأميركيين.. والمحطة الأبرز في عملياتها كانت خطف رئيس الوزراء الإيطالي ألدو مورو في العام 1978 وقتله، لمنعه (على ما قيل) من إشراك الحزب الشيوعي في حكومته. وإقفال الطريق أمام استمرار صعود الحزب في الحياة السياسية الإيطالية! أي، إن منظمة يسارية متطرفة في ماركسيّتها، تولّت ضرب أهم فرصة يسارية أوروبية للمشاركة في السلطة، في واحدة من أهم دول أوروبا!
والأمر عيّنة عن طبيعة «تداخل الوظائف» في عالم الإرهاب.. لكنّه في الإطار العام، يدلّ على عالم موبوء وعدَمي! والأهم، على وجود مُحرّك مركزي في غرفة عمليات مشتركة لدول كبرى وصغرى، يرعى ويُوجّه ويدعم، جماعات إرهابية عدّة، بهويّات وأجندات وعناوين متفرقة، حتى وإن كان بعض الشقّ الفلسطيني منها، «مبدئياً» و«عاطفياً»!
إرهاب اليوم، يشبه إرهاب الأمس، سوى أنّه موصوم بالإسلام مثلا كان ذلك موصوماً بالماركسية! أي إن الجماعات الإرهابية والتكفيرية الناشطة والمختزَلة بـ«داعش» تستند في عملها الى «محرك مركزي» في غرفة عمليات مشتركة تضم دولاً وأنظمة كبيرة وصغيرة، ويتولى الرفد والتمويل والرعاية. ويحدّد «الأهداف» و«المواعيد»، ويترك التفاصيل للمنفّذين! وهذا يُفضي الى استنتاج لئيم مفاده: إنه مثلما كان الإرهاب الماركسي مرعياً بدولة الماركسية الأولى في العالم! فإن الإرهاب المتأسلم يبدو مرعياً بدولة «الإسلام الثوري» وبمشروعها العابر للحدود والسدود تحت راية «الولي الفقيه»!
على أن الاستدراك يفرض القول، ان المعطى الارهابي الراهن، أوسع مدى في الوظيفة، من عنوانه، وأكثر شمولية! أي أن مستخدميه في «غرفة العمليات المشتركة» تجمعهم رفقة طريق، سياسية وانتهازية واضحة وأكبر من المعطى الديني! على عكس ما كان عليه الحال أيام «الاشتراكية العظمى» المتدرّجة في صيغها بما يتناسب مع «الظروف الموضوعية» لكل دولة!
وهذا في كل حال، كلام لا يدّعي نفي العلم بـ«النقاش» المفتوح إزاء المحفّزات والخلفيات النصوصية الدينية للإرهاب الراهن! ولا يتجاهل الصخب التبسيطي الموصول بذلك! ولا إدعاء البراءة التامة من المسبّبات! ولا تعليقها على شمّاعة التآمر المألوفة! لكنه كلام يصرّ على الشق الوظائفي في هذا الإرهاب قبل هويّته! وعلى استخدامه في سياسات مخزية وجلاّبة عار لأصحابها!
هذا إرهاب يفوق إرهاب الحرب الباردة، ويشارك في رعايته وتوجيهه واستخدامه، من يحنّ الى تلك الحرب وطقوسها و«أدبياتها»!