IMLebanon

الانذار… موديز: الوصاية الصندوقية الدولية على الابواب اذا لم ننفذ الاصلاحات

 

 

يُقال في علم الطبّ أن تشخيص المرض هو نصف العلاج! هذا الكلام يصحّ أيضًا في حالة لبنان الذي يعيش أسود أيّامه ويُعاني من مرض الفساد. هذا الفساد الذي يقضي على كلّ مُقوّمات الدوّلة الإقتصادية، المالية وحتى النقدية والبشرية والبيئية. وكأن هذا لا يكفي، أخذت موضة الشائعات بالإنتشار على مواقع التواصل الإجتماعي بشكل لا مثيل له في العالم وأصبحت تطال المواطن بشكل مباشر عبر مدخوله وممتلاكاته.

 

} مرض لبنان… الفساد }

 

عاش لبنان منذ تشرين الأول 2017 على وتيرة التقارير الدوّلية عن وضع ماليته العامّة، إقتصاده وليرته. وأظهرت كل التقارير التي صدرت عن لبنان صورة قريبة جدًا للواقع ولعل أهمّ إستنتاج من هذه التقارير هو عجز لبنان التوأم (عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري) كما ومدى إعتماد الدوّلة على الإستدانة لتمويل هذا العجز التوأم. وفي الفترة المُمتدّة من نيسان 2019 وحتى يومنا هذا، زاد تفاعل اللبنانيين ووسائل الإعلام مع تقارير وكالات التصنيف وصندوق النقد الدوّلي التي شدّدت جميعها على تردّي الوضع المالي للدوّلة اللبنانية والإعتماد المُتزايد على التمويل من قبل القطاع المصرفي ومصرف لبنان. وتحوّلت هذه التقارير إلى رسائل نتلقاها يوميًا على الواتساب تُنذر بإنهيار الليرة والمصارف…

 

حرّية التعبير مُقدّسة وخاصة للصحافيين، إلا أن الشائعات الأخيرة حوّلت الأنظار عن المرض الحقيقي ـ أي الفساد ـ وأصبح الإهتمام مُنصبّا على الدولار وسعر صرفه. الفساد هو مُشكلة لبنان الأولى والأخيرة وكل إجراء لتحسين وضع لبنان المالي والإقتصادي والإجتماعي، يجبّ أن يمرّ حكمًا بمحاربة الفساد.

 

المُعادلة بسيطة، مالية الدوّلة تتغذّى من الضرائب التي تفرضها الدوّلة لتقديم خدمات للمواطنين ودفع الكلفة التشغيلية للقطاع العام. ويأتي خيار مستوى الضرائب بحسب النشاط الإقتصادي مما يعني أن الدوّلة يجب أن تُنفق على الأكثر بمستوى الأيرادات التي تُحصّلها.

 

ثلاث مشاكل أدخلها الفساد على اللعبة الإقتصادية:

 

أولاً ـ رفع الإنفاق العام إلى مستويات لم تعدّ الإيرادات تكفي لتغطيتها وذلك من خلال إدخال موظّفين بمئات الآلاف إلى القطاع العام (توظيف إنتخابي)، والتحايل على الخزينة العامة من خلال الجمارك، الكهرباء، المناقصات العمومية وغيرها.

 

ثانيًا ـ ضعف مالية الدوّلة وتخطّي الإنفاق العام لإيرادات الدوّلة دفعها إلى الإستدانة حتى وصل الدين العام إلى مستويات هائلة أصبح معها لبنان يحتل المراتب الأولى بين الدوّل الأكثر مديونية في العالم.

 

ثالثًا ـ تخلّت الحكومات المُتعاقبة عن دورها في وضع السياسة المالية وبالتالي أخذ الإقتصاد يتطوّر بشكل طبيعي إلى إقتصاد هشّ يعتمد على الربحية السريعة من دون أن يكون هناك إستثمارات في القطاعات الإنتاجية.

 

الواقع اليوم هو على الشكل التالي: أصبحت الدوّلة اللبنانية مُلزمة بدفع أجور للقطاع العام بقيمة 6 مليار دولار أميركي (بالليرة اللبنانية) وخدّمة دين العام بقيمة 6 مليار دولار أميركي (منها 3 مليار بالدولار الأميركي). وبسبب ضعف القطاعين الصناعي والزراعي، أصبح لبنان يستورد بقيمة 20 مليار دولار أميركي سنويًا مقارنة بصادرات لا تتخطّى الـ 3 مليار دولار أميركي.

 

هذا الكوكتيل من المشاكل، فرض حاجة تمولية سنوية بالعمّلة الصعبة بقيمة 6 إلى 7 مليار دولار أميركي كانت الدوّلة اللبنانية تُموّلها سابقًا من خلال الإستدانة من المصارف والأسواق المالية. لكن اليوم ومع تراجع تصنيف لبنان الإئتماني أصبحت كلفة الإستدانة عالية جدًا ويُمكن أن تُسرّع في إنهيار المالية العامّة. لذا عمدّت الدوّلة إلى التوجّه إلى مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني وحاولت فرض فوائد مُخفضة لتمويلها. وهذا ما رفضه صندوق النقد الدوّلي مُحذرًا الدولة اللبنانية ومصرف لبنان من الإستمرار في هذه اللعبة.

 

} موديز والفرصة الأخيرة }

 

تقرير موديز الذي صدر أول من أمس، إنتقد بشكلٍ لاذع أداء الدوّلة اللبنانية ومحذّرًا إياها من الإستمرار على هذا النهج من دون إصلاحات تحت طائلة خفض التصنيف في أخر هذا العام. وبرّر قراره هذا بالقول أن الضغوطات المالية هي بإرتفاع مستمرّ نتيجة تراجع التدفقات المالية الخارجية وعدم كفايتها لتغطية حاجة الدوّلة إلى العملة الصعبة كما تُظهره أرقام ميزان المدفوعات الذي سجّل عجزًا بقيمة 5.3 مليار دولار أميركي في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي مقارنة بـ 4 مليار دولار أميركي في العام المُنصرم.

 

وأضاف تقرير موديز أن الحكومة أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على مصرف لبنان وعلى إحتياطاته من العملات الأجنبية مما يُهدّد الإستقرار المالي والنقدي في لبنان، مُذكّرة أن مصرف لبنان هو من يدفع إستحقاقات الدوّلة بالعمّلة الصعبة وهو أمر مرفوض شكلا ومضمونًا في الأسواق المالية. وأشارت إلى أن العوامل الجيوسياسية من عقوبات أميركية على حزب الله والأحداث الأمنية مع إسرائيل قلّصت من تدفق العملات الأجنبية وهو ما زاد من الضغط على إحتياط مصرف لبنان.

 

وأضافت الوكالة أن مصرف لبنان يتمتّع بقدرة تمويل للدوّلة بين 6 إلى 10 مليار دولار أميركي من دون أن يهتزّ الثبات المالي والنقدي في لبنان. وهذا الأمر يُعتبر الإنذار الأخير للدوّلة اللبنانية قبل الدخول تحت الوصاية الصندوقية! الجدير ذكره أن إحتياط مصرف لبنان هو 38.6 مليار دولار أميركي من العملات الصعبة و15 مليار دولار أميركي من الذهب.

 

الدخول تحت وصاية صندوق النقد الدوّلي ستكون مُوجعة جدًا للشعب اللبناني، وفي ما يلي أهمّ الإجراءات التي سيفرضها صندوق النقد الدوّلي على لبنان لإقراضه حاجاته بالدولار الأميركي:

 

أولا ـ تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية وهذا الأمر سيكون كارثيا على أكثر من ثلثي الشعب اللبناني. الجدير ذكره أن العمّلة تعكس قوّة الإقتصاد، وبما أن الإقتصاد اللبناني ضعيف جدًا فإن تحرير سعر الصرف سيضرب الليرة مما يعني إرتفاع الأسعار بشكل جنوني وتراجع لبنان إلى حدّ دخول أكثر من 70% من اللبنانيين إلى الطبقة الفقيرة!!!

 

في الواقع ما يفعله رياض سلامة من خلال سياسة الثبات النقدي، هو وضع الإحتياط مكان الإقتصاد لضمان ثبات الليرة اللبنانية. من هنا تأتي أهمّية المُحافظة على هذا الإحتياط!

 

ثانيًا ـ رفع الضرائب بشكل كبير يسمح لإيرادات الدوّلة بتغطية نفقاتها أي يُمكن لنا أن نرى ضريبة على القيمة المُضافة بأكثر من 20% ورسوم باهظة على الخدمات العامّة. وهذا الأمر يعني أن ما يستهلكه المواطن حاليًا، لن يكون بمقدوره إستهلاكه لاحقًا نظرًا إلى التراجع الحاد بالقدرة الشرائية مما يعني الغوص أكثر في الفقر.

 

ثالثًا ـ تخفيض وحتى إلغاء كل الخدمات الإجتماعية وحتى أنظمة التقاعد في القطاع العام والإستشفاء والطبابة على الصناديق الضامنة. وهذا الأمر سيجعل الأمنّ الصحّي للمواطن اللبناني في خطرٍ كبير.

 

رابعًا ـ خفض الأجور في القطاع العام بشكل كبير قد يصل إلى حدود الـ 50% مما يعني أنه بالإضافة إلى التراجع الكبير في القدرة الشرائية، سيكون على المواطن تحمّل تراجع إضافي في هذه القدرة ناتجة عن خفض الأجور.

 

خامسًا ـ خصخصة كل المرافق العامّة (أو أقلّه قسم كبير منها) مثل الكهرباء، شركة طيران الشرق الأوسط، أوجيرو، الخليوي، مرفأ بيروت وطرابلس وغيرها. وهذا يعني أن لبنان سيخرج من هذه الأزمة من دون أصول عامّة!!!

 

وقد يظنّ البعض أن ما طرحناه مُبالغ فيه، لذا نقول لهذا البعض، راجعوا ما حصل في اليونان. لذا وقبل الوصول إلى هذه الحالة، تعمد وكالات التصنيف والمؤسسات المالية الدوّلية وبعض الدول الأجنبية إلى الضغط على الحكومة اللبنانية من أجل إجراء إصلاحات تسمح بإستدامة المالية العامة.

 

} عدد قليل من الإصلاحات }

 

في الواقع الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ الوضع عددها قليل جدًا ويكفي أخذ القرار من قبل القوى السياسية للعبور إلى برّ الأمان. هذه الإصلاحات هي أقلّ بكثير مما نصّت عليه ورقة بعبدا المالية والإقتصادية:

 

أولا ـ ملف الكهرباء: لا يُمكن ولا يُعقل أن تستمرّ الخزينة بتحويل مليارات من الدولارات إلى مؤسسة كهرباء لبنان. هذا الأمر يتنافى وكل القواعد المنطقية في العالم! اللبنانيون لا يُريدون كهرباء الدوّلة لأن كلفتها الحقيقية (تحاويل خزينة + فوائد الإستدانة + فواتير المواطنين) تفوق الثلاثة مليارات دولار أميركي سنويًا، في حين أن كلفة المولدات تبقى أقلّ مقارنة بنفس عدد الساعات من التغذية. فعلا أصبح ملفّ الكهرباء قمّة العبث بالمالية العامّة وحتى بعقول اللبنانيين.

 

الخيار المطروح هو وقف كل معامل الدوّلة لحين إنشاء معامل كهرباء كفيلة بإعطاء المواطن قيمة ما يدفعه وفتح إمكانية التزود بالكهرباء من القطاع الخاص. أمّا رفع تسعيرة الكهرباء حتى ولو بنسبة 43% كما يُقال، هو هدر لثروات اللبنانيين لأن الكل أصبح يعرف أن قيمة ما تُقدّمه مؤسسة كهرباء لبنان لا يوازي ما تتلقاه.

 

ثانيًا ـ الجمارك: لا يُمكن لأي لبناني أن يقتنع بأن مداخيل الدوّلة من الرسوم الجمركية هي المداخيل الحقيقية. كل الحسابات التي قمّنا بها وكل التقارير الصحفية التي رصدت بالجرم المشهود التهريب، تدلّ على أن هناك عمليات تهريب جمّركي مُمنهجة. نعم هناك عمليات مُمنهجة لنهب خزينة الدوّلة لأن الرسوم الجمركية هي رسوم سيادية وهي ملك الشعب اللبناني. أكثر من 1.5 مليار دولار أميركي هي التقديرات لحجم التهريب الجمركي في لبنان، ومن يقول غير ذلك عليه أن يُقدّم الإثباتات!

 

لماذا لا يتمّ وضع كتبية من 100 عنصر من الجيش اللبناني على مرفأ بيروت وتكون بأمرة رئيس الجمهورية أو قاض يختاره رئيس الجمهورية؟ هل هذا القرار يُقوّض السلم الأهلي؟

 

ثالثًا ـ التهرّب الضريبي: أخذ مصرف لبنان عددا من الخطوات الكفيلة بتحجيم التهرّب الضريبي. إلا أن هذه الخطوات لا يُمكن أن تحلّ محل الإجراءات الحكومية وعلى رأسها تشكيل لجنّة من الإختصاصيين (أجانب بالدرجة الأولى) لرصد عمليات التهرّب الضريبي. لا يُعقل أن مئات اللبنانيين يمتلكون حسابات في باناما، أو أن الالاف من الأعمال غير مُسجّلة في وزارة المال!

 

رابعًا ـ وضع آلية شفافة للمناقصات العمومية وذلك بهدف وقف الهدر والفساد اللذين يعتريان المشاريع العامّة. من غير المقبول بعد اليوم أن نرضى بمشاريع من نوع «الفيل الأبيض» في لبنان، حتى أن الرئيس الفرنسي أعطى الرئيس الحريري لائحة بأسماء المقاولين «الفاسدين» وطلب إقصاءهم عن مشاريع سيدر.

 

خامسًا ـ وضع موازنة 2020 في مهلها الدستورية ضمن مبدأ الموازنة الواقعية والمنطقية وتفادي أخطاء موازنات الأعوام 2017، 2018، و2019. هذه الموازنة يجب أن تحوي أقلّه على نقطتين أساسيتين، الأولى عجز متوقعّ منطقي ويُمكن تحقيقه والثانية دعم لبعض القطاعات الإنتاجية.

 

} مصرف لبنان لن يكون كبش محرقة }

 

إن ما يعيشه لبنان اليوم هو نتاج السياسات الحكومية المُتعاقبة. ومن يضع اللوم على مصرف لبنان هو بعيد كل البعد عن الواقع بحكم أن مصرف لبنان هو من أمّن الثبات النقدي وحتى المالي في لبنان، وهو من سمح للبنانيين بالحفاظ على مستوى معيشي مقبول. ولا يُمكن القبول بأي تصريح يجعل من مصرف لبنان كبش محرقة لتغطية فشل السياسات المالية المُتعاقبة

 

إذا كان تثبيت سعر صرف الليرة هو جريمة، فأنا أعتبر نفسي المُجرم الأول في الجمهورية اللبنانية لأن الأمن الإجتماعي للمواطن اللبناني يفوق أي إعتبار واليوم في لبنان لا أمن إجتماعيا إلا من خلال تثبيت سعر صرف الليرة.