IMLebanon

مسلسل الحروب يتواصل على الساحة اللبنانية

جمهورية تواجه حلولاً مقفلة سياسياً

وقضايا اللاجئين تحاصر أزمات النازحين !

وقف برباطة جأس، الى جانب زملائه، وراح يبكي ويولول، حزناً على بلده، وقد أوشك على الانزواء، وهو المعروف بين أقرانه، بأنه صاحب صوت جهوري.

فوجئ زملاؤه بما شاهدوه، وتمنوا عليه أن يحتفظ بما عرف عنه من رصانة وشهامة. لكنه كفكف دموعه وقال لهم انه لا يصدّق بأن الوطن الذي أحب، أصبح مجبولاً بالفساد الى حدود غير متوقعة.

وأردف: كان فيكتور هوغو كبير شعراء فرنسا وعظيمهم، يفلسف الفقر، ويجعل من طفلة اسمها كوزيت تعلم الناس بالحاجة حيناً، وبالمرض أحياناً، وبالثياب الهشة دائماً، كيف تجعل جان فالجان لا بطل رواية فحسب، بل العنوان الأساسي لقوة الضعيف على تجاوز المحن.

سأله أحدهم وهو من غلاة محبيه عما اذا كان الضعف البشري يجعله هو أيضاً ضعيفاً الى حد البكاء والنواح الهادئ.

ورد: عندما يصبح المجتمع ضعيفاً، الى حد جعل الشاشات مرآة لمن هم عاجزون عن النطق بسلاسة وبلاغة، وساعة يتهافت عليهم أصحاب النفوذ، ليدعوهم الى الكلام، فهذا يعني ان نهاية العالم أوشكت على الاقتراب من الغروب.

وتابع: تصوروا ان رجلاً كان يجمع صوراً ل رجل احلامه، أضحى فيلسوفاً يحاضر في العفة، ولا يخجل ممن هم في واقع الشهرة، أن يدعوه للكلام، وإن كان لا يتكلم بما يفيد، فقولوا على الدنيا السلام.

الا ان رجلاً آخر، راح يخفف من وطأة الكارثة عليه، وحاول تجريده من كلام ليس مباحاً فيه، بادره بأن الدنيا صارت على هذا المنوال، وانه لا بد له من ان يساير الآخرين، والا عدّوه جاهلاً، في مجتمع غارق في الجهل.

ضحك الرجل وصارحهم بأن الجهل أحياناً يتحول الى رصانة وإن صمت وسكت، لأن الكلام يصبح أسوأ من الفساد.

وتساءل: الفضائح تملأ البلاد. هناك فضائح في الانترنت، وفضائح في عالم الزبالة، وملاحم في الخراب الشامل، في معظم الاشياء. ان معظم الموظفين، متهمون بالفساد، وبأنهم ضالعون في العيوب. لم يعد موظف نظيف الكف، في اي موقع يحتله عن جدارة وأصالة أو وصل اليه عبر الوساطات والشفاعات، ذلك ان الفساد ضارب أطنابه في كل مكان.

وتابع المتحدث يشرح أفكاره: في العام ١٩٧٥ نشبت الحرب في البلاد. وبعد نصف قرن أصبحت الحرب في كل باب، وعلى أبواب المنازل. هل أصبح لبنان جمهورية مهددة بالزوال. هل أضحى وطن الأرز وطناً لا أرز فيه ولا حياة. وهل أصبحت الجرائم والكوارث تعم المخادع وتستشري في كل زاوية ومكان؟

واستطرد: لقد مضى عامان بالتمام والكمال، ولبنان يتألف من جمهورية لا رئيس يقودها الى الفلاح والنجاح، ولا جمهور يحوطها أو يحيطها بالآمال والأحلام

قبل ربع قرن طلب رجل مثقف ومشهور، موعداً لمقابلة رئيس الجمهورية الياس الهراوي، وفي نيته أن يصبح رئيس حكومة في عهده. وعشية الموعد المضروب، أحضروا لرئيس البلاد مجلة أسبوعية يقول فيها الزائر القادم في اليوم التالي الى رئيس الجمهورية، في عنوان بارز: هذه جمهورية من دون جمهور.

طبعاً، لم يكن الكاتب قد قرأ ما كتبته الصحيفة عن لسانه، لكنه، عندما دخل الى مكتب رئيس الجمهورية، وجده يستشيط غضباً عليه، ودفع اليه بالصحيفة ليقرأ ما ذكرته على لسانه، هذه جمهورية من دون جمهور.

قوجئ الكاتب بما أوردته الصحيفة، لكنه وقع في بلبلة وذهول. فقد أدرك أنه أورد هذه العبارة، لكنه لم يكن يتوقع أن يقرأها في صحيفة، تكن العداء لرئيس البلاد. بيد أنه ترك أحلامه الرئاسية في القصر الجمهوري، وتوجه الى مكاتب الصحيفة ليطلب تكذيب خبر لم يصدر على لسانه بشكل صريح.

يوم السبت الفائت، كان رئيس مجلس النواب نبيه بري، يندد بما يندد بتصريحه القائل إنه قطع الأمل من نظام ديمقراطي في البلاد، من جراء مرور سنتين على عدم انتخاب رئيس للجمهورية، وانه ابتكر أو طلع بحل اسمه تشريع الضرورة، لأن استمرار البلاد من دون تشريع معناه دفع الوطن الى الانهيار.

كان الرئيس نبيه بري يدرك ان الميثاقية تنهار، اذا ما اعتمد التشريع في مجلس نيابي معطل، لتمرير مشاريع قوانين حياتية واجتماعية وإن كان يدرك أن أحزاباً أساسية تؤيده في خطوته، لكنها محفوفة بزوال الميثاقية، وإن كان شريكه الشيعي حزب الله يجاريه في هذه المسألة، وشريكه الآخر في الوطن، أي تيار المستقبل يلاقيه على الطريق نفسها، لكنه يصطدم بمعارضة شرسة من حزب الكتائب اللبنانية، المعارض لأي تشريع في غياب رئيس البلاد، كما ان تحالف التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية يعارض التشريع، اذا لم يكن مشروع الانتخابات النيابية بنداً أساسياً فيه.

ثمة سؤال: هل يلبي الرئيس نبيه بري تحذيره، ويسير في تشريع الضرورة ويضع الجمهورية على بساط الرحيل الى المجهول؟

والمصيبة ان هذه المعاناة، تصبح كارثة ميثاقية، لأن في البلاد غياباً مفضوحاً عن السلامة الوطنية، وقد حرص الرئيس تمام سلام الموجود في نيويورك، بعد زيارة الرئيس الفرنسي هولاند للبنان، على التبصر في أبعاد هذه الخطوة، لأن في البلاد صراعاً صامتاً بين الرئيس بري وحزب الله حول الموقف من ترشيح الرئيس العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجيه، في حين ان رئيس حزب الكتائب قطع الآمال من امكان اختيار الجنرال أو رئيس تيار المردة للرئاسة الأولى، وطرح مجموعة أسماء أبرزها الوزير السابق زياد بارود والعميد شربل روكز، وهو صهر الجنرال، والنائب السابق صلاح حنين وسواهم من دون أن ينسى المراقبون أسماء أساسية في مقدمتها الوزير السابق جان عبيد والعماد جان قهوجي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامه.

وهكذا، فإن الجمهورية تبحث عن رئيس، في حين ان الجمهور يريد رئيساً يقود البلد ولا ينقاد من سواه.

كان الوزير جبران باسيل زعيم تكتل الاصلاح والتغيير واضحاً، عندما ذهب الى طرابلس يوم السبت الماضي، وأطلق من جامعة طرابلسية الانتماء، واسلامية النهج، الفكر الذي يحمله رئيس التكتل العماد ميشال عون، بأنه عندما سار على مبادئ تجعله أقرب الى حزب الله منه الى غريمه تكتل الوسط، لم يكن ينحاز الى جانبه، ويبتعد عن الطائفة السنية أو عن الطائفة الدرزية، بل كان الحزب الذي يقترب من الجميع، ولا يبتعد عن جماعة ضد جماعة أخرى.

وهذا هو ما يعانيه الآن العماد عون، بعدما رشحه ولا يزال حزب الله لرئاسة الجمهورية، على الرغم من أن الرئيس سعد الحريري، ابتعد عنه وأيد ولا يزال النائب سليمان فرنجيه للرئاسة الأولى، وكأنه يوحي بأن التفاهم مع جمهورية فرنجيه هو الأقرب الى القوى الأخرى من التعايش مع جمهورية عون.

هل هذا هو الحوار الصعب، الذي جعل الانتخابات الرئاسية تتأخر بضعة أشهر وقد تتأخّر أشهراً وسنوات.

ثمة نقطتان متعارضتان: لماذا التفاهم مع فرنجيه، أقرب الى الحقيقة من التوافق مع الجنرال عون، وفريقه السياسي.

وهذا ما حاول الاجابة عليه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في خطابه المكتوب والذي أوحى بأن المرشحين الوحيدين حتى الآن فرنجيه وعون، ينتميان الى ٨ آذار، لا الى ١٤ آذار.

هل يعود الأمر الى ان ١٤ آذار وضعت أوراقها الانتخابية في سلّة رئيس حزب القوات اللبنانية مراراً، وعمد قائدها الدكتور جعجع الى ترشيح خصمه السياسي العماد عون، ومناهضة ترشيح خصمه السياسي سليمان فرنجيه، من قبل حليفه الرئيس سعد الحريري.

هل اقترف غلطة سياسية أم انه لم يحسب حساباً لإمكان مخالفة صديقه الدكتور جعجع، لاحتمال ترشيح القوات للعماد عون للرئاسة؟

وماذا بعد الوصول الى طريق مسدود في الحظوظ السياسية، وهل يمكن ان تنكفئ احتمالات اللجوء الى مرشح ثالث على حساب الجنرال والحكيم؟

قبل نصف قرن، اجتمع مجلس النواب في جلسة تاريخية لانتخاب رئيس الجمهورية في أجواء عسكرية متوترة لم تشهدها بيروت.

قبل ٢٤ ساعة نامت العاصمة اللبنانية على أصوات الرصاص والقنابل، وأفاقت على الأصوات نفسها، وعلى قطع الطرقات المؤدية الى المجلس النيابي المؤقت في قصر منصور.

يومئذٍ، تولت الامر قوات من الصاعقة الفلسطينية الموالية لسوريا، وحاولت اغتيال النواب، ومنعهم من الوصول الى المجلس.

وقد جرت عملية الاقتراع بحضور ٦٨ نائباً، نال منها الأستاذ الياس سركيس ٦٣ صوتاً ووجدت خمس أوراق بيضاء، ثم جرت عملية اقتراع ثانية، بعد وصول النائب عبداللطيف الزين، ارتفع العدد الى ٦٩ نائباً، نال منها سركيس ٦٦ صوتاً، ووجدت ٣ أوراق بيضاء.

بعد اعلان فوز الياس سركيس، هنّأ الرئيس كامل الأسعد الرئيس المنتخب في كلمة وجيزة وأعلن رفع الجلسة، لكن الرئيس الشهيد رشيد كرامي وقف في اللحظة نفسها ليلقي كلمة قال فيها ان النواب اختلفوا قبيل الانتخاب، وإنا علينا باسم لبنان ان نتفق على اننا عائلة واحدة، وصفاً واحداً.

إلاّ أن الرئيس الياس سركيس ألقى بكلمة، نوّه فيها بأننا جميعاً نعيش في نظام ديمقراطي جوهره حرية الفكر وارادة التنوّع وحرية التعبير.

في تلك اللحظة أدرك اللبنانيون انهم يطمحون الى الخلاص، وان اعادة بناء لبنان تستوجب صهر الجميع في ارادة واحدة. وان قوة لبنان تنبع أولاً من ذاته ومن ارادته.

يوم السبت الواقع فيه ٨ أيار، قال مسؤول لبناني لوزير الخارجية المصري اسماعيل فهمي انه آتٍ من بلد مزّقته الحرب، والتهمت النيران كل شيء فيه، وانني باسم هؤلاء أسألكم متى يكون الخلاص؟ وما هي تصوراتكم لما سيحدث في لبنان!

وردّ وزير الخارجية المصري بأن عليه ان يوضح ان الموقف في لبنان يمثّل سابقة خطيرة في العالم العربي، ويجب تعريف حقيقة لبنان وانه ينبغي لنا، ان نكفّ عن التدخل في الشؤون والشجون اللبنانية.

سئل الوزير المصري: ما معنى هذا، هل يترك لبنان يحترق. ان ما حدث يعتبر في رأيي كارثة، وسابقة خطرة، ولذلك، لا يمكنني إلاّ أن انضم الى سعاة الخير والوفاق.

وأردف اسماعيل فهمي: ان الموقف في لبنان يحتاج الى حلّ عملي فاعل، يمكن الاتفاق عليه. نحن نقترح تشكيل قوة أمنية عربية. نحن في مصر، لا مطامع لنا في لبنان ولا في غيره، ومن المعروف ان مصر تقدمت باقتراح رسمي لانشاء قوة عربية لحفظ الأمن، وفي سبيل خلق الجو الملائم للبنانيين، ينبغي القبول بوصاية ربما تكون بانشاء قوات ردع عربية.

كان انتخاب الرئيس هو الحلّ، بين السلطة اللبنانية والسلطة السورية. والقوات العربية تحوّلت الى قوات سورية، فكيف يمكن حلّ المشكلة الجديدة من مشكلة لاجئين فلسطينيين الى قضية نازحين سوريين؟ في العام ١٩٧٧ كان الرئيس سركيس هو مبعث الأمل، ورمز الوجود السياسي في اطار دولة مستقلة. والآن ماذا يحصل في غياب رئيس جمهورية منذ عامين عن موقعه.

في العام ١٩٧٥ أعلن المبعوث الأميركي دين براون الذي أنهى مهمته في لبنان، انه يستحيل على أي فريق، تأمين الانتصار على الفريق الآخر، وقال ان لبنان يدور في فلك سوريا، أو يصبح دولة مواجهة ضد اسرائيل، وان ما يحتاج اليه، هو أهداف جديدة واصلاح شامل وعدالة اجتماعية.

الصورة الآن أصبحت مغايرة، ذلك ان سوريا تمزّقها الحرب الأهلية، كما كان لبنان عرضة لهذه الحرب، فهل على الوطن الصغير، ان يبدّد مخاوف الاقتتال بين السوريين أنفسهم، بعد عجز الموفدين الدوليين على ذلك، ومغادرة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند له، من دون حلّ مشكلة اللاجئين، وقد أصبح في لبنان مشكلتان لا مشكلة واحدة، مشكلة لاجئين فلسطينيين، وقصة نازحين سوريين؟

بدأ الرئيس سركيس بعد انتخابه اتصالاته واجتماعاته بمختلف الفئات، متنقلاً بين المنطقتين الشرقية والغربية، داعياً الى وقف القتال عملياً ومحاولة جمع والتقاء وجهات النظر بين الجميع على نقاط مشتركة تصلح أساساً للحكم. واشتركت فئات عدة بينها رئيس الحكومة رشيد كرامي في الدعوة الى ضرورة تقريب موعد استقالة الرئيس سليمان فرنجيه وتسليم الحكم الى الرئيس المنتخب حتى يصار الى فتح أبواب الحوار وطيّ صفحة الماضي، لكن الرئيس فرنجيه كان يعتبر بأنه بحاجة ماسة الى المزيد من الضمانات التي تكفل له بأن انتهاء مهمته وتسليمها الى الرئيس سركيس لن تؤدي بالبلاد الى فراغ أو الى مزيد من الحرب والتدهور.

وقد طلب من سوريا أن تتدخل لضمان تسلّم الرئيس سركيس صلاحياته. واجتمع الرئيس سركيس مع الرئيس فرنجيه في ١٧ أيار.

في ١٧ أيار، ازدادت حدّة الحرب بشكل غير معقول. ووصل الى بيروت رئيس الوزراء الليبي الرائد عبد السلام جلود مكلّفاً من حكومته ببذل المساعي بين لبنان وسوريا ومختلف الأطراف الأخرى لوقف الحرب. ورافق جلود في زيارته الى بيروت ياسر عرفات، واجتمع فور وصوله بالقمة الاسلامية في عرمون، ثم بالأحزاب اليسارية، في محاولة منه لفتح أبواب الحوار من جديد، بينها وبين سوريا. وأخذت القيادات المسيحية ورئيس الجمهورية سليمان فرنجيه على جلود والحكومة الليبية حصر اتصالاتهما بجانب واحد من جوانب الأزمة اللبنانية، وانطلقت حملة عنيفة على ليبيا قيل فيها إن وساطتها لا ثقة فيها لأنها هي التي تستمر بتغذية الحرب عن طريق السلاح والمال.

وللوصول الى حل، عقدت خلوتان: الأولى، ضمت سركيس وجنبلاط، والثانية اشترك فيها ياسر عرفات وأبو أياد.

وفي ٢٢ أيار التأم في الكفور المقر الصيفي للرئاسة، بعد تدمير القصر الجمهوري في بعبدا شمل السياسيين، أعلن بعدها الرئيس كميل شمعون ان استقالة الرئيس فرنجيه غير واردة، رداً على المطالبين باستقالته.

وجرت في نهاية الأزمة، حلول لرأب الصدع وتأمين المصالحة بعد زوال أسباب الممانعة.

يوم الثلاثاء في ٢٥ أيار، ووسط موجات التفاؤل والتشاؤم، اجتمع الرئيس المنتخب والرئيس فرنجيه لعرض اخر التطورات. وفي الوقت الذي كان كمال جنبلاط يميل الى الاعتقاد ان الحل السياسي غير بعيد، كان حوار القذائف ينهي الهدنة في بيروت وضواحيها وفي جبهات الجبل… وطغت محاولة اغتيال العميد ريمون اده على ما عداها من أحداث. كان العميد عقد في الصباح اجتماعاً مع الشيخ بيار الجميّل في بكركي برعاية البطريرك خريش لتطويق حوادث جبيل التي زارها بعد الاجتماع للتعزية بالضحايا. وأثناء عودته الى بيروت، مرّت سيارته على حاجز مسلّح في بلدة العقيبة، فأطلقت عليها النيران بغزارة، وطارد المسلحون العميد حتى ضبيه. ولكنه نجا من الموت بأعجوبة.