بنهاية أعمال مؤتمر وارسو بان جلياً للعيان أن هناك إرادة دولية بمقدمة أميركية لمحاولة تغيير ملامح ومعالم بعض مما لصق بالشرق الأوسط والخليج العربي طوال العقود الأربعة المنصرمة، لا سيما تلك التي أعقبت الثورة الإيرانية عام 1979، مع ما صاحبها من نشوء وارتقاء للإرهاب الدولي، ولتجذير ملامح التطرف والتعصب في المنطقة، لا سيما في ظل إصرارها الخبيث على تصدير قلاقلها لدول الجوار، ورفع أعلامها الدوغمائية ونشر نموذجها الثيولوجي المغشوش في بقاع وأصقاع العالم، وبدءاً من الشرق الأوسط بنوع خاص.
أربعة عقود أضحت فيها إيران فاعل الشر المجاني الأول وقائداً للإرهاب العالمي بحسب العديد من التقارير الاستخباراتية الغربية والشرقية على حد سواء، ولم تعد مخاطرها قاصرة على إرهاب حرسها الثوري في الإقليم وما وراءه من قطاعات جغرافية دولية كأوروبا، بل انتشر إلى ما وراء المحيط، كما الحال في أميركا اللاتينية حيث «حزب الله» الوكيل الرسمي لإيران.
أضف إلى ذلك برامجها الصاروخية المهددة التي تتجاوز حاجتها الدفاعية كما تتذرع، عطفاً على إرهابها السيبراني وهجماتها التي لا تتوقف في الفضاء الإلكتروني، وفي هذا وقبله وبعده يبقى برنامجها النووي الماضية فيه قدماً، بهدف حيازة السلاح النووي، الأمر الذي لا يغيب عن أعين المتابعين للشأن الإيراني من مشارق الأرض إلى مغاربها.
حين يتحدث وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في نهاية أعمال «وارسو» عن الدعوة إلى اتفاقية عالمية لمواجهة التهديدات الإيرانية، فإن ذلك يعني أن شيئاً حقيقياً يتحرك على الأرض لوضع نهاية لرؤى طهران، وملاليها سيئي السمعة، وأن مؤتمر وارسو لم يكن مجرد لقاء دعائي أو بروباغندا إعلامية، وأن فعلا حاسما وحازما على حد سواء ينبغي تفعيله على الأرض لمنع الديكتاتوريين في إيران من التمادي.
قبل مؤتمر وارسو بقليل أفرجت الولايات المتحدة عن بعض المعلومات الاستخباراتية المصنفة «سرية للغاية»، التي أثبتت من خلالها أن مواجهتها لإيران في زمن دونالد ترمب، مواجهة غير مسبوقة، وأن هناك في الداخل الأميركي رغم تغير الإدارات من كان لا يثق بطهران أبدا، حتى وإن أدخل باراك أوباما الإيرانيين حظيرة الخراف الصالحة باتفاقية كانت تستوجب الإلغاء بالفعل.
أفرجت إدارة ترمب عن معلومات استخباراتية تفيد بأن الأميركيين كانوا وراء تسريب وربما تهريب أدوات وقطع غيار معيبة لبرنامج إيران الصاروخي البعيد المدى، ولهذا فإن خسائر وإخفاقات طهران في التجارب الصاروخية تكاد تقترب من السبعين في المائة، على الرغم من أن المتعارف عليه دولياً في مثل تلك الإشكالات لا يتجاوز الخمسة في المائة في أسوأ الأحوال، وعلى هذا القياس يمكن للمرء أن يستنتج ما ينتظر إيران عما قريب.
يلفت النظر في مؤتمر وارسو أن مواجهة أو مجابهة لإيران لم تعد أميركية حصرياً، فقد انكشفت أكاذيب حكام طهران في عيون العالم، ولهذا فإنها المرة الأولى التي تجتمع فيها وفود نحو سبعين دولة من قارات الأرض الست على كلمة وقرار واحد لوصم إيران بالإرهاب، ولتضييق الخناق عليها، فإما أن ترتدع، وهذا أمر غالباً غير مرجح، وإما فالأسوأ بالنسبة لها لم يأت بعد، وأنه إذا كانت قد تمت إدانتها في وارسو اليوم، فإن المقادير ربما تجري بما هو أوسع وأكثر انتشاراً على الرقعة الدولية والأممية في القريب العاجل.
أحد المشاهد اللافتة للنظر في بولندا، التي لها رمزية لا تغيب عن أحد، فقد كانت الأرض التي اهتزت أول الأمر تحت أقدام رجالات الاتحاد السوفياتي أوائل ثمانينات القرن المنصرم، كان ذاك المتصل بتحذيرات الوزير بومبيو للأوروبيين بشأن الخطر القادم والداهم من قبل إيران، التي لن يتوقف إرهابها عند حدود الشرق الأوسط، بل سيتجه إليهم وإلى بقية دول الغرب دون تمييز.
يتساءل المرء: هل أيقظت تحذيرات بومبيو الأوروبيين من حالة الغفلة التي أحاطت ولا تزال بهم؟
لا يزال اللغز الأوروبي تجاه إيران غير مفهوم، وربما لم تصل إلى أسماعها تصريحات مرشد الثورة خامنئي للرئيس الإيراني روحاني بألا يثق أيضاً في الأوروبيين، وكما سبق أن حذره من ألا يثق بالأميركيين.
ناهيك من ذلك، فكيف لأوروبا أن تقف في مقام المفاضل بين الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي الذي أنقذها قبل سبعة عقود من نازية هتلر وفاشية موسوليني، لصالح فاشية دينية قريبة جغرافياً منها، لا وبل ترسل حرسها الثوري لتفخيخ وتفجير تجمعات المعارضة على أراضيها، واغتيال الرموز اللاجئين إلى أراضيها.
يمكن اعتبار مؤتمر وارسو انعطافة استراتيجية عالمية في مواجهة إيران لا زيف فيها ولا تثريب عليها، وهو الأمر الذي أقلق إيران والذين يدورون في فلكها من أصحاب الرايات الفاقعة والأبواق الإعلامية الزاعقة التي ما فتئت تقدم كل ما هو مغلوط ومهيج، في ديماغوجية لم تعد خافية عن أعين الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وعبر خلط أوراق، والتدثر بثياب البطولة تجاه قضايا بعينها، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية وما يدور من حولها من تسريبات طوال العامين الماضيين.
لم يكن هدف «وارسو» بالدرجة الأولى ولا الثانية وحتى الثالثة مناقشة القضية الفلسطينية ومآلاتها في الوقت الحاضر، وعليه فإن ترويج بعض المناصرين لإيران، والكارهين للحضور العربي الفاعل في وارسو، أن القمة كان الهدف الرئيسي منها تصفية القضية الفلسطينية عبر توافقات تحتية على معالم وملامح «صفقة القرن» التي كثر الحديث عنها، محاولة فاشلة لتوجيه الأنظار بعيداً عما ستلاقيه تلك الدول التابعة وإيران من قبلها في القريب العاجل، فقد آن أوان حصاد الزوان وتنقية الحقل من كل ما هو ضار وخبيث وعزله بعيداً.
إسرائيل بدورها ليست بريئة من التلاعب بالمشاهد الدولية ومحاولة قلب الحقائق، ذلك أن حضورها مثل هذا المؤتمر أمر يتفق وحركة التطور الطبيعي لجيوبولتيك العالم المتغير والمتجدد، أما محاولة إظهارها الأمر وكأنه فتح غير مسبوق على العالم العربي كما تكلم نتنياهو، فلا يختلف بل يتفق مع مزوري الحقائق من الجانب الموالي لإيران.
الخلاصة… قمة وارسو تعني أن نهايات المد الإيراني على الأبواب.