وقائع محلية وعوامل خارجية أبطلت ولادة الجبهة المعارضة
تكثّف الإدارة الأميركية إطلالتها على لبنان، سعياً الى مواكبة الخطة الإصلاحية التي تعمل عليها الحكومة. وهي تضع في الوقت نفسه تحت المجهر طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي. وتعطي الخارجية الأميركية وقتا غير قليل لمتابعة التفاصيل اللبنانية عبر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر بما له من باع طويل في المسألة اللبنانية وتعقيداتها، وفي بيروت عبر لقاءات السفيرة دوروثي شيا ومقابلاتها الإعلامية، وهي مقابلات كانت نادرة في زمن السفيرة السابقة إليزابيث ريتشارد. كما تفرد شيا وقتا لمتابعة وتحفيز التحركات في الشارع، وهي سبق لها أن وصفتها في شهادتها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في 17 كانون الأول 2019 وقبل تثبيتها في منصبها كسفيرة إلى لبنان في 11 شباط 2020، بأنها «لم يسبق لها مثيل في طبيعتها الوطنية الحقيقية مع مشاركة المواطنين اللبنانيين من كل أنحاء البلاد ومن مختلف الطوائف والطبقات الاجتماعية والاقتصادية فيها».
تتعامل واشنطن مع التطورات اللبنانية، على حد سواء، بعقل بارد وببراغماتية لافتة، وهو ما إنسحب على آليات تعاطيها مع الحكومة ورئيسها حسان دياب. وكان لافتا أن تقارب وزارة الخارجية وتحديدا مكتبها لشؤون الشرق الأدنى، الخطة المالية والاقتصادية بنوع من التشجيع على المضي قدما نحو تحقيق الإصلاح، وإن من خلال صندوق النقد الذي تعتبره واشنطن أكثر الأدوات فاعلية لوضع مجمل الاقتصاد اللبناني تحت مجهر المراقبة والمحاسبة، متى قررت الحكومة المضي قدما في برنامج مع الصندوق.
زهو أميركي بما يعتبرونه إرباكاً يعيشه حزب الله بسبب التضييق والحصار السياسي والمالي
لا تخفى في هذا السياق، لا الرغبة الأميركية في إستكمال تضييق الخناق على حزب الله من خلال ما تعتبره واشنطن «قدرة الصندوق على تجفيف الاقتصاد الموازي الذي يوظفه الحزب في سبيل توسعة نفوذها والإطباق على النظام اللبناني»، ولا توجّس الحزب من هذه الخطة الأميركية، وهو توجّس جعله يمسك العصا من وسطها. فلا هو قادر على الإستمرار في رفضه السابق الركون الى صندوق النقد بعدما بلغ الإنهيار اللبناني حدا غير مسبوق جعل الصندوق بالنسبة الى عموم اللبنانيين المرتجى وخشبة الخلاص، ولا هو مسلّمٌ بالمشيئة المطلقة للصندوق، بالنظر الى تيقنه من انه «أحد الأدوات الأميركية لإختراق النظام اللبناني إستكمالا لخطة واشنطن تحييد الحزب عن نفوذيه المحلي والإقليمي، وتاليا تجريده من وظيفته المقاومتية».
يعمل الحزب بين هذين الحدّين، في منطقة رمادية هي النسبة اليه بالغة التعقيد والخطورة ستنعكس حتما على آليات عمله المحلي والإقليمي. وهذا الواقع هو تحديدا ما يجعل المسؤولين الأميركيين المعنيين بالمنطقة مزهوين الى حد كبير بما يعتبرونه «إرباكا يعيشه الحزب نتيجة سياسة التضييق والحصار السياسي والمالي الذي جعله يعيد حسابته في أكثر من مساحة نفوذ»، وإن كان هؤلاء المسؤولون لا يزالون يعتبرون أن «سطوته على الحكومة اللبنانية هي عنصر الضعف الرئيس في أي مسعى إنقاذي داخلي». لكن هذا الواقع لم يمنعهم عن منح الحكومة فرصا محدودة «لتحقيق ما هو مطلوب دوليا منها من إصلاحات هيكلية تنقذ الاقتصاد وتقفل أبواب الفساد وسرقة المال العام والتهريب والتهرّب الضريبي، بما يؤدي حكما الى تجفيف كل عناصر الاقتصاد الموازي الذي يفيد منه حزب الله راهنا مع تراجع الدعم الإيراني نتيجة العقوبات على طهران».
وتعني الفرص المحدودة الأميركية (والعربية الى حدّ ما) الممنوحة للحكومة أن واشنطن ليست راهناً في وارد تغطية أي مسعى لتقويضها بما يؤدي الى إستقالتها، وهو أمر بات مسؤولون لبنانيون على إطلاع كامل عليه، تماما كما لمسه قادة في المعارضة. وربما لهذا لسبب تحديدا لا تزال مرامي تشكيل جبهة معارضة سياسية متعثرة لا بل غير قابلة للحياة في الوقت الراهن، بالتقاطع مع تلمّس البرودة العالية عند كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع حيال تشكيل تلك الجبهة التي يسعى اليها سعد الحريري الراغب في العودة الى رئاسة الحكومة، الأمر الذي دفعه الى التحصن بنادي رؤساء الحكومات السابقين في موازاة تزخيم خطوط الإتصال مع حزب الله (نفى الحريري الأمر، فيما اللافت في هذا السياق أن مسؤولين في واشنطن هم من تقصّدوا تسريب ذلك التواصل، وذهبوا أبعد في تحديد قنوات إتصال إقليمية مماثلة!)، في موازاة خطاب غير مسبوق في معاداة ميشال عون وجبران باسيل، يُنظر اليه على أنه أحد الأدوات الحريرية لتحفيز تلك القنوات!