«تطبيع» الإمارات مع إسرائيل تحوُّل في المشهد العربي وارتداداته ستصل إلى لبنان
أتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت على وقع زلزال المرفأ المدمّر وتداعياته المفتوحة على المجهول. بعد أسبوع من الزيارة، يمكن القول إنه حقق الهدف الأول المرجو منها، وهو احتواء ما حصل، بحيث إن النقاش السياسي على ضفتيّ الموالاة والمعارضة انتقل إلى طبيعة الحكومة المقبلة ورئيسها والانتخابات النيابية، وكأن كارثة بيروت حادث عابر بنتائجه.
ربما من الطبيعي أن تتصرّف السلطة على هذا المنوال، انطلاقاً من غريزتها الطبيعية بالبقاء، لكن الذهول في أن تتصرّف المعارضة بكثير من القصور السياسي. فقلب العاصمة أُصيب مقتلاً برمزيته، وميناؤها الاستراتيجي ضُرب في أقسى ظروف اقتصادية ومالية تمرّ بها البلاد. العاصمة بيروت، حيث الثقل السني – المسيحي مقتولة وجريحة ومُدمرة ومُهانة، فيما يُفتّش المرء عن سياسييها من زعماء ونواب ووزراء، وعلى مراجعها الدينية، وعلى كبارها، فلا يجدهم في الشارع بين أبنائهم الثكالى، المكويين بعصف انفجار نترات الأمونيوم، المنثورة أجسادهم بزجاج الأبنية، المشرّدين خارج منازلهم فيما السماسرة ولصوص الأبنية الأثرية، التي تُشكّل تراث المدينة يحومون من حولهم لشراء بيوتهم بخمسين من فضة.
هي علامات الوهن في جسد القوى المُعارضة، التي كانت سيادية يوماً، من تيار المستقبل إلى القوات اللبنانية، وحتى الحزب التقدمي الاشتراكي الذي شكّل زعيمه وليد جنبلاط يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 رافعة الانتفاضة التي غطّت شوارع بيروت والوطن وأخرجت الوصاية السورية التي جثمت على صدر لبنان ثلاثين عاماً.
زيارة ماكرون حققت هدفها الأول باحتواء زلزال بيروت… وعلامات الوهن تصيب المعارضة بقوة
لم يجد زلزال بيروت مَن يتعامل معه على أنه جريمة العصر الثانية، بعد جريمة العصر الأولى. يطيب للبعض أن يعزو السبب إلى اختلاف الظروف الإقليمية والدولية بين 2005 و2020، لكنه في الواقع يعود إلى روح انهزامية ومنحى استسلامي وخوف على المصير والرعية ومصالح صغيرة وكبيرة لا ترقى إلى وجدان الناس ولا إلى طموحاتهم بعيش كريم وتوقهم إلى استعادة بلدهم الذي كان يوماً منارة الشرق، يشع علماً وحضارة وتقدماً وانفتاحاً وحباً بالحياة.
وحدهم سبعة نواب (سامي ونديم الجميل وإلياس حنكش من حزب الكتائب، بولا يعقوبيان، هنري حلو، ميشال معوّض ونعمت أفرام) – وكان يُفترض أن يكون مروان حماده ثامنهم – انتفضوا لإنسانيتهم، لكرامة عاصمتهم وناسها وكل الضحايا الذي سقطوا في انفجار «الغموض البنّاء» الذي قد يكون من الصعب أن تُعرف حقيقته في غياب تحقيق دولي شفاف لا يبدو أنه سيُبصر النور، وفق ما تتّجه إليه مسارات المعالجات الواهية.
فالاهتمام العربي الدولي الذي انصبّ على لبنان بعد الزلال لا يخرج عن الاستجابة الإنسانية لمعنى الكارثة. وما وجده رئيس الجمهورية ميشال عون والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله من فرصة أتاحتها دماء الأبرياء وأشلاء الضحايا ودمار قلب لبنان لفك الحصار عن سلطتهم المتحكمة في البلاد والعباد سيظهرُ بعد حين أنه سراب.
سيبقى الاستنزاف في الداخل عنواناً للمرحلة المقبلة. فرغم أن ماكرون قال إنه عائد في أول أيلول للمشاركة في ذكرى مئوية لبنان الكبير، متأملاً حدوث اختراق حتى ذلك الموعد، فإن مؤشرات ذلك ليست قوية. وقد تقتصر التطورات في المدى المنظور على استقالة حكومة حسان دياب المتخلخلة أساساً. وبدأت الأجواء تؤشر إلى احتمال أن تطول مرحلة تصريف الأعمال، مع ذهاب الدول إلى آليات مساعدات مباشرة للشعب من خارج الحكومة والوزارات المعنية، والاعتماد على المؤسسة العسكرية، التي يُتوقع أن تتوسّع مهامها وصلاحياتها في إطار حالة الطوارئ والحاجة إلى تمديدها وانفلاش رقعتها عند الضرورة.
فعلى الرغم من الارتياح الذي نقله مراقبون قريبون من «حزب الله» للحركة الفرنسية المرتكزة برأيهم على «تنسيق ما» بين باريس وطهران وقبول أميركي بحدود معينة، والتي لم تتناول موضوع سلاحه، فإنهم يعتبرون أن معادلة النوايا الحسنة لم تتحوّل بعد إلى وقائع حاكمة في المشهد اللبناني نظراً لتعقيدات داخلية وضبابية خارجية، ذلك أنه من غير الواضح ما إذا كان هناك تفويض أميركي وما هي ماهيته وطبيعته وحدوده، فضلاً عن أن التطورات المتسارعة في المنطقة، وما شهدته أمس من تحولات في المشهد العربي في ضوء إعلان دولة الإمارات عن إقامتها علاقات ثنائية كاملة مع إسرائيل، ستكون لها نتائجها وارتداداتها وتداعياتها في هذا التوقيت، فيما المواجهة الأميركية – الإيرانية لا تزال على أشدها مع تقلص احتمالات أي اختراق ملموس في العلاقات بين واشنطن وطهران قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ووفق الانطباع الذي خرج به «لوبي أميركي» من أصل لبناني اجتمع أمس بطاقم من الخارجية الأميركية أن إدارة دونالد ترامب أرادت من زيارة ديفيد هيل أن تُرسل إلى اللبنانيين رسالة واضحة بأنها ستقف إلى جانب الشعب، وستعمل على حمايتهم، وأنها لن تمحض دعمها لحكومة لا تمثلهم ولا تعبّر عن تطلعاتهم. وسينقل هذه الرسالة بوضوح المسؤول الأميركي إلى القيادات الشابة والمجتمع المدني كما إلى المسؤولين في الحكومة المستقيلة وإلى المؤسسة العسكرية، ذلك أن رهانها ما عاد على قدرة القوى السياسية في إحداث التغيير بل على الشارع وطموحات الشارع وأحلامه، وهي ستعمل على مدّ اليد للمنطقة المنكوبة في خطوات ملموسة.
والأهم في ما لمسه أعضاء اللوبي الأميركي من أصل لبناني أن لا تراخٍ في موقف واشنطن من «حزب الله» ومن حلفائه، وأن سياسة الضغوط القصوى مستمرة التي يندرج الكلام عن لائحة جديدة من العقوبات في إطارها.