ليس من السهل تبرير مسألة الاعلان عن «الاتفاق الإطار» لإطلاق المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود مع اسرائيل من عين التينة. وما يصعّب المهمّة، ان يعلنه احد طرفي «الثنائي الشيعي»، وهو ما قاد ديبلوماسياً عتيقاً الى اعتباره خطوة اولى في الطريق الى اتفاق مع اسرائيل، بمعزل عمّا سيؤدي اليه. وعليه، ما الذي يقود الى هذه القراءة في التوقيت والشكل والمضمون؟
رغم حجم ما سال من حبر تناول مسألة ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان واسرائيل منذ اكثر من 20 عاماً، فإنّ كثيراً من الحبر سيسيل بعد اليوم، بمعزل عمّا ستحمله الآراء في ما يجري من زوايا وجوانب مختلفة، وعلى قواعد جغرافية وسياسية متشابكة. فالعنوان مطروح منذ الانسحاب الاسرائيلي في 25 ايار عام 2000 ، والذي عُدّ إذعاناً من دولة الاحتلال بتطبيق القرار 425 بعد 22 عاماً على صدوره في 19 آذار عام 1978. فمنذ ذلك التاريخ، بدأ الحديث ينمو ويخفت من وقت لآخر عن مسألة ترسيم الحدود، على وقع تعدّد الخطوط التي باتت تتحكّم بخريطة المنطقة، بدءاً من خط اتفاقية الهدنة الموقّعة بين لبنان واسرائيل 1949، وتزامناً مع مجموعة اخرى من اتفاقات الهدنة التي وقّعت بين الدولة العبرية والدول المجاورة، والتي استندت الى ما قالت به قرارات الامم المتحدة، عن الخطوط الدولية المرسّمة منذ العام 1923 بين لبنان وفلسطين، قبل عقدين ونيف من قيام دولة اسرائيل، وصولاً الى ترسيم الخط الأزرق بموجب القرار 1701 الصادر في 12 آب عقب حرب تموز 2006.
وبعيداً من العودة الى تلك المراحل التاريخية، فقد جرت محاولات ترسيم الحدود والبحث عن طريقة تأمين وضمان الاعتراف الاسرائيلي النهائي به، ضماناً لحدود لبنان الدولية ولحقوقه في البرّ والبحر. وهي عملية عبرت محطات عدة. فباستثناء حرب حزيران العام 1967، يمكن التوقف عند محطة اولى تلت الإجتياح الاسرائيلي للبنان في 4 حزيران من العام 1982، انطلاقاً من جنوبه وصولاً إلى عاصمته بيروت، والذي قاد انسحابها الى مفاوضات معقّدة جداً تنقّل فيها وفدا البلدين بين الاراضي اللبنانية والاسرائيلية، توصلاً الى ما سُمّي اتفاق 17 ايار عام 1983، حيث فشلت كل المساعي لترسيم الحدود بنحو ضامن للحقوق اللبنانية. كان ذلك مطروحاً قبل ان يرفض رئيس الجمهورية في حينه الشيخ امين الجميل توقيعه، نتيجة عدم حصوله على أي ضمانات اميركية كافية للاطمئنان الى اطماع اسرائيل، وهو ما اشار اليه في كتابه «الرئاسة المقاومة»، ونشر الجميل الرسالة التي تلقّاها من الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغن، وجاءت «خالية» من اي ضمان اميركي جدّي وصارم لحماية لبنان ولشكل العلاقة مع اسرائيل مستقبلاً ومنعها من أي عمل عدائي لاحقاً.
بقيت الأمور مجمّدة منذ تلك المحاولة وحتى العام 2007، فأُثير الملف مجدداً عقب التفاهم اللبناني ـ القبرصي على ترسيم الحدود البحرية بينهما، والذي استندت اليه اسرائيل في وقت لاحق لترسيم حدودها البحرية مع قبرص، فاستغلت خطأ ارتكبه الجانب اللبناني في تلك الاتفاقية، ففُتح الملف مجدداً. ومن بعدها انطلقت مفاوضات قادها الموفد – الوسيط الاميركي فريدريك هوف الى المنطقة، في جولاته المكوكية بين تل ابيب وبيروت، الى حين توصله الى ما عُرف لاحقاً بـ «خط هوف» الذي رفضه لبنان ولا يزال، بسبب اعتراضه الثابت على التوزيعة الأميركية النسبية للمنطقة المُختلف عليها، والتي اعطت لبنان ما نسبته 63 % منها وترك لاسرائيل جزءاً آخر منها، ما خلا منطقة «وسطية» تقع بين الحصتين، يمكن ان تتقاسم الدولتان مردودها المالي عبر صندوق اممي خاص يُنشأ لهذه الغاية، إن وجِد النفط والغاز فيها.
وعليه، لم تفلح الجهود التي بذلها خلفاء هوف، فجاء عاموس هولكشتاين من بعده، واستقال او أُعفي من مهماته في ظروف غامضة، وقيل يومها انّ اللوبي اليهودي قاده اليها بسبب اصراره على «تكبير» حصّة لبنان من «توزيعة هوف». وبعده جاء ديفيد ساترفيلد، وصولاً الى المهمة التي يقوم بها منذ اقل من سنة آخر الموفدين في هذا الملف ديفيد شينكر.
على ما يبدو، يعترف احد المتعاطين بالملف، انّ شينكر حقّق ما لم يحقّقه احد قبله، وهو توصل في زيارته للبنان الى نوع من التفاهم على وضع اتفاقية الاطار للمفاوضات في نيسان الماضي، تأسيساً على نتائج زيارة وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو لبيروت، وعلى المفاوضات التي اجراها وفد نيابي لبناني وأحد مستشاري رئيس مجلس النواب نبيه بري في واشنطن، وتلك التي جرت في الكواليس بين بيروت وواشنطن لإحياء المفاوضات بين الدولتين، في ظروف قيل انّها زرعت «ثقة مخفية» بين الاميركيين وبري.
وبمعزل عن هذا العرض التاريخي الذي لا بدّ منه، وجب العودة الى ما جرى امس الاول في عين التينة، لقراءة ما يوحي به اعلان بري عن هذا الإتفاق، في ظلّ الظروف التي يعيشها «ثنائي» حركة «امل» و»حزب الله»، وعلى وقع العقوبات الاميركية التي طاولته بعيداً، من مضمون النصوص الدستورية التي اناطت برئيس الجمهورية صلاحية المفاوضات لعقد المعاهدات الدولية، وهو ما توقف عنده ديبلوماسي عتيق في الشكل والمضمون والتوقيت فقال:
– في الشكل، لا يمكن تفسير ما حصل سوى على الطريقة اللبنانية، فملف المفاوضات كان مع بري منذ عشر سنوات تقريباً قبل وصول عون الى بعبدا، وهو ما كان موضوع ثقة اميركية قبل ان تكون لبنانية لأكثر من سبب.
– في المضمون، يبدو الاتفاق غامضاً، فوضع اطار المفاوضات يعتريه كثير من الالتباسات، نتيجة الخلافات التي كانت قائمة حول شكل المفاوضات، وهل ستكون عبر فريق عسكري ام ديبلوماسي، الى ما هنالك من حديث عن اولوية الترسيم في البر على الترسيم في البحر او العكس، وقد حسمها الجانب الأميركي، باعتقاده انّ اي تقدّم في جزء منهما يؤثر على الجزء الآخر، فانتفت الحاجة الى اعطاء الاولية لجزء على آخر.
– اما في التوقيت، فتتعدّد القراءات وتتوسع، لأنّه يبدو الاكثر اهمية، وقد حُدّد في توقيته لخدمة جميع اطرافه. فبعد تأجيل الاعلان عنه في نيسان او في تموز الماضيين، لم يعد مهمّاً، لأنّ التوقيت اليوم هو الاهم بالنسبة اليهم. بدءاً بتطور موقف الثنائي الشيعي تجاه الادارة الاميركية، قبل صدور الدفعة الجديدة من العقوبات الاميركية في حق قيادات حليفة له، وبإبراز نيته بالمفاوضات مع اسرائيل، ولو بصورة غير مباشرة، والقبول بإعلان يتلى من عين التينة، يتضمن اشارة الى «حكومة اسرائيل» في النصوص المُتفق عليها، وهو امر يعني كثيراً بالنسبة الى الجانبين الاميركي والاسرائيلي، على ابواب الانتخابات الرئاسية الاميركية، وفي ظل انطلاق موجة التطبيع بين تل ابيب والدول الخليجية والعربية.
وعليه، يختم الديبلوماسي نظريته بالقول: «طالما انّ الدفاع عن الخطوة قائم في الجانب المؤيّد للثنائي وحلفائه في لبنان، لا يمكننا سوى القول، ولو مبكراً، انّ لبنان مشى الخطوة الاولى نحو اتفاق مع اسرائيل، يستذكر آخر المشاريع التي لم تنضج، سواء سُمّي «17 ايار» جديداً او اي عنوان آخر. ففي كل الحالات، تقول الكواليس السياسية والديبلوماسية، انّ المسيرة انطلقت «رائدها شيعي» على قاعدة «نحن قاومنا ونحن حرّرنا، ونحن نحمي ونحن نعطي الإشارة بالمفاوضات». ألم يقل بري امس «انّ دوره انتهى هنا»، وهو يعني انّ البقية يجب ان تأخذ شكلها القانوني والدستوري.