كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، انّ الدافع الأساس وراء دخوله بقوة على خط الأزمة اللبنانية، منع انزلاق لبنان إلى الحرب، ولكن الحؤول دون الحرب لا يعني إنقاذ لبنان وإعادته إلى ما قبل 17 تشرين.
لم يقل ماكرون من هي الجهة او الجهات التي تريد الحرب في لبنان، كما لم يقل ما المقصود بالحرب ولا كيف انّ دخوله سيمنع هذه الحرب، ولكن ما قاله كافٍ للتدليل الى انّ لبنان يدخل ضمن ساحات المواجهة بين واشنطن وطهران، وانّ هذه المواجهة من دون سقوف، وسقط معها مبدأ التمييز بين الدولة و»حزب الله»، وأنّ مبادرته ترمي إلى مساعدة لبنان مالياً، من أجل تجنيبه الانهيار، بانتظار انطلاق المفاوضات الأميركية – الإيرانية.
والحرب لا تعني بالضرورة إحياء الظروف نفسها التي عاشتها البلاد بين عامي 1975 و1990، لأنّ الانقسام الطائفي الذي كان قائماً قبل تلك الحرب وإبّانها، غير موجود اليوم، إنما المقصود انهيار الدولة وتعطُّل دورها، وفي مجتمع تعدّدي مثل لبنان، تصبح كل الاحتمالات مفتوحة، حيث يصعب ضبط الفوضى إلّا بترسيمات طائفية، وهذه الترسيمات قد تقود إلى اصطفافات واستنفارات ومواجهات من طبيعة طائفية.
فالدخول الفرنسي على خط الأزمة اللبنانية كان يرمي إلى إعادة الوضع في لبنان إلى مرحلة الفصل بين الدولة و»حزب الله»، اي تحييد الدولة عن المواجهة بين واشنطن وطهران واستطراداً الحزب. ولكن هذا المسعى الفرنسي اصطدم بأربع عقبات أساسية:
أولاً، لا يمكن لواشنطن ان تغطي او تبارك او تساهم في اي تسوية تؤدي إلى تعويم وضع «حزب الله»، لا سيما بعد ان قطعت المواجهة أشواطاً متقدّمة، والمطروح بالنسبة إلى واشنطن تسعير المواجهة لا التراجع عنها في الأمتار الأخيرة التي تسبق الحرب او التسوية.
ثانياً، الحكومة الوحيدة المقبولة بالمعيار الأميركي هي الحكومة التي لا نفوذ فيها للحزب، والقادرة على تحقيق الإصلاحات التي تتقاطع مع العقوبات، في محاصرة الحزب وتجفيف مصادر تمويله.
ثالثاً، طهران لن تسلِّم واشنطن مفاتيح بيروت بالتراجع أمام سياسة القضم الاستراتيجي الذي تتبعه، بل ستتمسّك بنفوذها ودورها، حتى لحظة الجلوس حول طاولة المفاوضات، من أجل مقايضة أوراق قوتها، وبالتالي، لن تقبل بأي حكومة لا يمسك «حزب الله» بمفاصل القرار داخلها.
رابعاً، إذا كان السقف الأدنى الذي يمكن ان تقبل به واشنطن لدعم لبنان يتمثّل بتشكيل حكومة لا نفوذ لـ»حزب الله» داخلها، وإذا كان السقف الأدنى الذي يمكن ان تقبل به طهران يتمثّل بتسمية الثنائي الشيعي للوزراء الشيعة، من اجل ضمان حق الفيتو وتعطيل الحكومة إذا قررت اتخاذ قرارات تتعارض مع مصلحة الحزب، فهذا يعني ان لا حكومة في الأفق، في ظلّ اختلاف الاستراتيجيتين الأميركية والإيرانية. وأما في حال تشكيل حكومة لاعتبارات محض محلية، فلن تتمكن من إخراج لبنان من أزمته، لأنّ قرار الإفراج عن المساعدات أميركي، وأقصى ما هو مطروح تجميد الانهيار.
ويبدو انّ باريس فهمت الرسالة جيداً، بأنّ لا واشنطن ولا طهران في وارد تسهيل مهمتها، كما انّها لمست عدم قدرتها على تحييد لبنان عن صراعهما، وهذا ما يفسِّر تخلّيها عن الشق السياسي في مبادرتها، ومواصلتها الشق الإنساني. كما يفسِّر تعاطيها ببرودة حتى اللحظة مع مبادرة الرئيس سعد الحريري، لإدراكها بأنّها ستصطدم بالشروط نفسها. فلا «حزب الله» في وارد الموافقة على حكومة لا يسمّي وزراءه فيها، ولا واشنطن في وارد مساعدة حكومة تصبّ في مصلحة الحزب وتخدم سياساته.
فالصراع الدائر أكبر من قدرة اللبنانيين على التحكّم بمساره واتجاهاته، وكل دورهم في هذه المرحلة يقتصر على التخفيف من تداعيات هذا الصراع، الذي يتوقف على التسوية الأميركية- الإيرانية، ولم يعد ممكناً تحييد لبنان عن هذه المواجهة، التي لن تنتهي إلاّ بإعادة هندسة كل المنطقة ومن ضمنها لبنان.
ويعوِّل «حزب الله» في الهندسة الجديدة، متى أصبحت أمراً واقعاً، على ثلاث أوراق قوة يستطيع تقديمها والمقايضة عبرها: ورقة سلاحه، ورقة دوره الحدودي مع إسرائيل المنفصلة عن السلاح والمرتبطة ببيئته، والتذرّع بدوره في ضبطها منعاً لأي احتكاك او اشتباك حدودي، وورقة دوره في مواجهة الشبكات الإرهابية، وامتلاكه بنكاً من المعلومات عن تحركاتها، يستطيع تزويد واشنطن بها. وهذا فضلاً عن تعويله على طهران، التي لن تتخلّى عنه في اي مفاوضات، وهو يحاول إقناع عواصم القرار، انّه لا يمكنه تقديم أوراقه مجاناً، وانّ ما يمتلكه من أوراق يستدعي أخذه في الاعتبار ومفاوضته على البدائل، التي تبدأ من تخلّيه عن الصواريخ التي تهدّد أمن إسرائيل ومن دون تخلّيه عن كامل ترسانته، ولا تنتهي باتفاق أميركي-إيراني على تكليف الحزب حماية الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وما بينهما تعزيز دوره السلطوي، عن طريق استبدال المناصفة بالمثالثة وانتزاع نيابة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش.
وتأسيساً على ما تقدّم، ثمة حديث عن وجهتي نظر: الأولى تقول انّ هدف «حزب الله» الاستراتيجي، إدخال تغييرات بنيوية على النظام السياسي، بما يضمن دوره في المرحلة المقبلة. وانّ هذا الهدف لا يمكن تحقيقه على البارد، بل يستدعي ترك الأوضاع تنزلق نحو الأسوأ، بما يتيح له التفاوض على الساخن، لانتزاع الأوراق التي يريدها. وفي حال صحّت وجهة النظر هذه، يعني ان لا حكومة قريباً، وانّه لن يتساهل مع الحريري بخفض سقف شروطه. فيما وجهة النظر الأخرى تقول، انّ ما يمتلكه الحزب من أوراق قوة واضح وثابت، وليس بحاجة للتسخين من أجل مقايضتها، بل هو جاهز لطرحها، مع انطلاق التفاوض حول دوره المستقبلي. بل يخشى من التسخين الذي يؤدي إلى تراجع دوره، من إمساكه بالدولة إلى سيطرته على مناطق نفوذه. كما يخشى من توريطه في صراع مذهبي لإفقاده أوراق قوته، وبالتالي من مصلحته شراء الوقت، بانتظار ان يحين أوان التسوية. وفي حال كانت هذه الوجهة دقيقة، فيعني انّ الحزب سيمنح الحريري فرصة تشكيل حكومة من دون ان يتنازل عن ورقتي المالية وتسمية الوزراء، ولكن يعمد إلى تلطيفهما. وهذا فضلاً عن حاجة العهد لحكومة تحول دون الانهيار وتمنحه فرصة الحدّ من الخسائر لا أكثر ولا أقل.
وما تقدّم لا يعني انّ الحكومة على الأبواب، ولكن أقصى ما يمكن الوصول إليه هو حكومة اختصاصيين مقنّعة على نسق الحكومة المستقيلة، مع فارق انّ رئيسها هذه المرة سعد الحريري، اي حكومة دياب بنسخة حريرية، وحكومة ما دون السقف الذي وضعه الرئيس المعتذر مصطفى أديب، لأنّ لا الثنائي في وارد التراجع عن شروطه، ولا العهد في وارد التساهل في تسمية الوزراء، والدليل، انّ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ما زال ينفي ما يؤكّده الجميع بأنّ لا وزراء له في الحكومة المستقيلة، فيما موقف باسيل الأخير الذي أطلقه عن طريق اجتماع التيار يحمل رسالتين مبدئياً: الأولى انّه وفقاً للمبادرة الفرنسية، لا مكان للحريري في رئاسة الحكومة، ومنتقداً سعيه الى دخول السرايا تحت عنوان «أنا أو لا أحد، وأنا ولا أحد». والثانية، انّه وفقاً لحكومة بالمعايير السياسية التقليدية، فهذا يعني الحق بالتمثيل السياسي تحت عنوان المساواة بين اللبنانيين، بمعنى انّ «المستقبل» لا يستطيع ان يكون في الحكومة ويحرم غيره من المشاركة في هذه الحكومة.
ولا شك انّ الحريري يأخذ في الاعتبار هذه المرة تكرار التقاطع السلبي بين الدكتور سمير جعجع وباسيل على عدم تسميته، مع الرهان على ان يليِّن باسيل موقفه تحت عنوان الميثاقية السنّية، وحاجة العهد الماسة الى حكومة، او ان يكتفي الحريري بتوقيع رئيس الجمهورية التمثيلي، كتعويض مسيحي عن عدم تكليفه من قِبل «القوات» و»التيار» في حال قررا ذلك. وهناك نقاش داخل دوائر القصر الجمهوري في هذا الموضوع مع ميل لتسمية الحريري.
وإذا كان رهان الحريري، انّ تفويت فرصة تكليفه تعني دخول البلد في المحظور، مع تراجع احتياطي المصرف المركزي والاقتراب من خطوة رفع الدعم اضطرارياً، فإنّ لعبة حافة الهاوية لا يتقنها الحريري كما يتقنها الحزب، الذي سيدفعه إلى مزيد من التنازلات. وفي مطلق الأحوال، اي حكومة لن تكون أكثر من حكومة شراء الوقت، بانتظار ان تتضح معالم المرحلة المقبلة، ومصير لبنان ضمن الهندسة الجديدة للمنطقة برمتها.