IMLebanon

واشنطن وباريس: ممنوع إعادة الإعمار!

 

6 أشهر تقريباً مرّت على انفجار نيترات الأمونيوم في شوارع بيروت وأحيائها. ستة أشهر وعودة الأهالي لم تتحقّق؛ السير في شوارع الجميزة ومار مخايل والكرنتينا يوحي كأن الانفجار حصل البارحة. فترميم واجهات المنازل الذي قامت به بعض الجمعيات والمنظمات ليس سوى ترقيع. لا إعادة إعمار لبيروت في المنظور القريب: سبق لأميركا وفرنسا أن أبلغتا هذا القرار إلى من يعنيهم الأمر في الجمهورية اللبنانية وكرّره أخيراً بعض سفراء الدول الأجنبية. وفي ظل قرار الحكومة ــــ غير المفهوم وغير المبرّر ــــ بالامتناع عن القيام بواجبها في هذا المجال، يبقى الإعمار مربوطاً بفكّ الحصار السياسي عن لبنان وبالرضوخ للشروط الدولية حتى يتمكن لبنان من توسّل القروض مجدداً على أبواب الجهات المانحة التي تبغي الربح

 

تنظر السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا بحزن الى مبنى أثري مُدمّر في منطقة الجميزة، ثم تقول في الفيلم الدعائي المُعَدّ من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) إن الولايات المتحدة، منذ الانفجار المروّع في 4 آب، تقف الى جانب الشعب اللبناني. تُعلمنا بعدها أن أميركا قدّمت أكثر من 31 مليون دولار كمساعدات فورية، وتمكن الشباب المنضوون في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من إزالة 4 آلاف طن من الأنقاض، وتأمين 500 «لمبة» Led و9 مولدات لخدمة سبع محطات ضخ للمياه. وفقاً لشيا، ما قامت به الوكالة مثير للإعجاب، وقد اختارت إنهاء حديثها بلغة عربية «مطعوجة» لتقول: «من قلبي دعمٌ لبيروت». لفيديو شيا الدعائي، فيديوات مشابهة كثيرة تحمل الرسالة عينها من الأمم المتحدة والجمعيات والمنظمات غير الحكومية. عمل هذه المجموعات يبدو واضحاً ومفصلاً على موقع المساحة الرقمية للتعاون الشفاف مع الجهات المانحة بإدارة مجلس الوزراء. فبحسب الإحصاءات، النسبة الأكبر من المساعدات كانت إنسانية، تليها المساعدات الطارئة. وقد بلغت قيمة المساعدات نحو 178 مليون دولار، معظمها عينية لا مالية، علماً بأن الشهر الجاري سجّل انخفاضاً ملحوظاً في المساعدات التي يتلقاها لبنان منذ 4 آب 2020 وهو ما كان متوقعاً نظراً إلى المنحى التنازلي الذي سلكته هذه المساعدات لتصل الى نسبة شبه معدومة في أول العام تكاد تلامس الصفر. الترجمة الدقيقة لهذه الأرقام ولما عبّرت عنه السفيرة الأميركية في الفيديو الدعائي، أن لا إعادة إعمار للمنطقة المنكوبة من الانفجار بل مجرّد حملة تنظيف وتوزيع كمامات ومواد مطهرة وحصص غذائية لمواطنين فقدوا منازلهم، لكن يجري التعويض عليهم بعلبة سردين.

 

 

أين الأموال والبواخر الفرنسية؟

الإعمار لن يحصل، وهو مؤجّل الى حين انقشاع الضباب السياسي وتأليف حكومة برضى أميركي وببرنامج عمل مُحدّد مسبقاً. عندها يكون إصلاح المناطق المنكوبة من ضمن الرزمة الجاهزة. ليس الأمر سرّاً، بل تبلغه رئيسا الجمهورية والحكومة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكرّره عدد من السفراء على مسمع محافظ بيروت مروان عبود. ما تقدم يعني أن عودة جزء كبير من المواطنين الذين تهدّمت منازلهم لا تزال طويلة، وأن انهيار منطقة بأكملها لا يعني الأميركيين ولا الأوروبيين ولا الفرنسيين بوجه خاص، إذا لم يأت في إطار مقايضة سياسية أو الرضوخ للشروط الدولية كاملة. حتى إن المؤتمر الإنساني الذي عقده ماكرون في باريس لمساعدة لبنان، لم تصل أمواله قط. قبيل ذلك، وعند زيارة الرئيس الفرنسي الأولى لبيروت عقب انفجار المرفأ، رافقته باخرتان محملتان بموادّ أوليّة، لم يُعرف عنها شيء. لا بلدية بيروت رصدتها ولا غرفة الطوارئ المتقدمة التي يرأسها الجيش تعرف عنها شيئاً. في مقابل ذلك، أرسلت مصر 9 آلاف متر مربع من الزجاج، ما يعدّ كمية قليلة جداً بالنسبة الى الأضرار، وقدمت إسبانيا مدرسة رسمية كلفتها نحو مليون يورو وتتسع لنحو 500 تلميذ يجري تجهيزها في منطقة الكرنتينا قرب فوج الإطفاء حيث هناك عقارات لبلدية بيروت، علماً بأن ثمة جمعيات قامت بعمل جدّي وساهمت بعملية الترميم. فجمعية فرج العطاء استطاعت ترميم شارع كامل في الكرنتينا، فيما تقول مصادر مطلعة على عمل الجمعيات إن المؤسسة المارونية للانتشار كان لها دور فعال، ومثلها جمعية «أركانسييل». لكن الترميم شيء، وإعادة الإعمار شيء مختلف تماماً ولا يمكن أن يجري إلا بإدارة مؤسسات الدولة اللبنانية لا عبر جمعيات متفرقة تعمل بشكل فردي وبميزانية محددة تجبرها على إنهاء عملها فور انتهاء أموالها.

 

مليارات مجلس النواب: شيك بلا رصيد

يقول رئيس غرفة الطوارئ المتقدمة في بيروت العميد سامي الحويك إنه «تم ترميم ما يفوق 13 ألفاً و500 وحدة سكنية؛ من ضمنها 1365 وحدة من المستوى الثاني (class B) أي ترميم كل المنزل وليس الواجهة فقط، والعمل جار لإنهائها. يجري العمل حالياً على حوالى 14000 وحدة سكنية أخرى». وقد دفع الجيش «أموالاً لنحو 11500 متضرر ويجري التحضير للدفع لحوالى 6000 متضرر آخر، ما سيزيد من أعداد الوحدات المنجزة». فعلياً، يجري العمل على الفئتين A وB أي ترميم الواجهات أو المنزل كله. إلا أن الفئتين C وD، اللتين تتعلقان بالمباني التي تعاني أضراراً هيكلية وتلك المهدمة فلا عمل عليها حتى الساعة. لكن ما القيمة الإجمالية لإعادة إعمار المناطق المنكوبة من انفجار المرفأ؟ «قام الجيش بمسح كل المباني المتضررة»، يعقّب الحويك، «إنما لم يتم تحديد الكلفة المادية لهذا المسح بالكامل. إذ كان هذا الأمر يتم للوحدات السكنية الأكثر فقراً وتضرراً ليجري الدفع لها من مبلغ الـ 100 مليار ليرة لبنانية المقدّمة من الدولة اللبنانية ومبلغ 50 مليار ليرة لبنانية التي سيتم توزيعها لاحقاً». في هذا السياق، يشير الحويك الى «87 مبنى أضرارها هيكلية وتمثّل خطر انهيار كلّي أو جزئي (25 كلّي و62 جزئي)، كلفة إعادة إعمارها كبيرة، وتحتاج إلى لجان من مهندسين متخصصين ليصار إلى تقييمها، وتدعيمها، ومن ثم ترميمها».

 

2700 مليار ليرة أقرّت في مجلس النواب كمساعدات لمتضرّري المرفأ، لكنّها بقيت شيكات بلا رصيد

 

 

مبلغ الـ 100 مليار ليرة لبنانية هو عبارة عن مؤونة حرّرها رئيس الجمهورية ميشال عون ووضعها بتصرف الجيش الذي قام بتوزيعها للأهالي. فيما الـ 50 مليار ليرة تمت بموافقة استثنائية من عون على شكل سلفة خزينة للهيئة العليا للإغاثة لتوزيعها كمساعدات ترميم على المتضررين نتيجة انفجار مرفأ بيروت. هذا المبلغ هو جزء من مبلغ أكبر يلامس 1500 مليار ليرة بحسب قانون اقترحه تكتلا «لبنان القوي» و«الجمهورية القوية» وأقرّه مجلس النواب. إلا أن هذا المبلغ لم يصرف منه سوى 150 مليار ليرة، وبالتالي الـ 1500 مليار ليرة ليست سوى شيك لا رصيد له في المالية اللبنانية، شأنه شأن الـ 1200 مليار التي أقرّت لمساعدة وزارة الشؤون الاجتماعية كما الصناعيين والزراعيين وبقيت مجرد حبر على ورق، بذريعة أن الخزينة العامة لا تحوي مالاً. أما مبلغ الـ 300 مليار ليرة الذي قررت بلدية بيروت رصده لمساعدة المتضررين عبر تسليمه للجيش، فلم تتمكن من إقراره نتيجة منع قانون الموازنة للمساهمات المالية عبر البلديات ورفض وزير الداخلية محمد فهمي إعطاء البلدية استثناءً لاتخاذ قرار مماثل، رغم إعطائه موافقة استثنائية للبلدية لمنح مساعدات للأهالي نتيجة الظروف الصعبة التي فرضها وباء كورونا.

 

تركيا وأدراج الأشرفية

رغم كل ما سبق، يبدو رئيس غرفة بيروت للطوارئ متفائلاً عند سؤاله عما إذا كان من الممكن إعادة بيروت الى ما كانت عليه قبل 4 آب 2020 في ظل غياب الدعم الخارجي وضعف الإمكانات الداخلية. فيجيب: «أكيد، ولكن يصعب إعمارها بسرعة… بدل ما نعمّرها بـ 10 سنين منخلّصها بـ 20 سنة. المهم إن أتت الأموال أن نتقن إدارتها ونضع آليات واضحة لصرفها». وبحسب الحويك، فإن الأموال التي صرفها رئيس الجمهورية توزعت على «الأكثر فقراً». ويرى من جهة أخرى أن الجمعيات «رممت النسبة الأكبر من المنازل والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، عبر تأمين الأموال والمواد اللازمة لإنجاز الأعمال كافة». غير أن المصادر المطّلعة على طريقة عمل الجمعيات، تشير الى استغلال بعضها «وجع» الناس لتحقيق مآرب انتخابية، حتى إن ثمة مجموعات كانت تساعد وفق الانتماء السياسي والمذهبي.

 

لم تصل أموال مؤتمر باريس إلى لبنان، فيما يتعذّر التكهّن أين رست الباخرتان الفرنسيتان المحملّتان بالمواد الأوليّة

 

 

من جهة أخرى، ثمة دول اختارت أن تكون بيروت المدمرة حلبة أخرى للصراع الدائر بينها. فكان لافتاً اتصال بعض الموظفين في السفارة التركية ببعض الشباب الذين يديرون جمعية تنشط في الأشرفية لسؤالهم عما يمكن فعله للمساعدة. تطور الاتصال الى زيارة في المكتب، ثم مسعى لترميم أدراج منطقتي الجميزة ومار مخايل والمنازل المحيطة بها، من دون أن يتم الاتفاق النهائي. في إطار آخر، عرضت السفارة الإيرانية على التيار الوطني الحر في بيروت المساعدة بتأمين مواد غذائية للمحتاجين، الا أن التيار رفض هذه المساعدات، رغم أن آلاف «كراتين الإعاشة» والمساعدات التي تم توزيعها حملت أعلام دول الكويت والسعودية والإمارات وغيرها لم تشكل أي حرج لأي جهة سياسية كانت!

ما سبق يُبقي النقاش في دائرة وحيدة، وهي انتظار القرار الغربي لبدء إعادة الإعمار، علماً بأن الدولة اللبنانية قادرة على تأمين الأموال اللازمة لإنجاز المهمة، من دون منّة من أحد. فما الذي يحول دون ذلك؟

 

1500 مليار ليرة كلفة ترميم المناطق المنكوبة؟

كم تبلغ كلفة إعادة الإعمار؟ منذ انفجار المرفأ، يتداول السياسيون وبعض المسؤولين مبلغ 10 مليارات دولار غير مبنية على أي إحصاءات أو أسس واقعية. ومن المثير للتعجّب عدم وجود رقم رسمي لدى أي مسؤول في الدولة اللبنانية حول هذه المسألة. في 14 تشرين الأول 2020، عقد نائب دائرة بيروت الأولى نقولا صحناوي مؤتمراً صحافياً قدّم فيه بعض الأرقام التي تحتاج إليها بيروت. وقال إن دراسته تشير الى إمكانية إعمار 90% من المنازل في المناطق المنكوبة بقيمة 300 مليار ليرة، منها 150 ملياراً مؤمنة. المبلغ هذا وفقاً لصحناوي «لا يأخذ بالاعتبار كلفة المدارس والجامعات التي تبلغ نحو 237 مليار ليرة وحدها، والمستشفيات التي تبلغ كلفتها نحو 500 مليار ليرة، والتجار الذين يجب أن يُخصص لهم 500 مليار أيضاً، ولا يأخذ بالاعتبار الأبنية المتصدّعة والتي تحتاج الى إعادة بناء من جديد». ما يعني فعلياً أن القيمة الإجمالية لعملية الترميم تُقدّر بحسب دراسة الصحناوي بـ 1500 مليار ليرة لبنانية وهو المبلغ الذي ورد في القانون الذي أقرّه مجلس النواب. ذلك سيحلّ نصف المشكلة ويعيد إلى النقطة الأولى أن إعادة الإعمار مؤجّلة الى أجل غير محدّد… والترميم كذلك!

 

مباني الوزارات: «من مال الله يا محسنين»

كان يفترض أن يجري ترميم السرايا الحكومية والوزارات والإدارات العامة المتضررة جراء انفجار مرفأ بيروت عبر مناقصة واحدة بإشراف المستشاري خطيب وعلمي. لكن تمت الدعوة الى مناقصة مرة واثنتين وثلاث من دون أن يتقدم أي عارض. فمعظم المتعهدين، على ما تقول مصادر مقربة من رئاسة الحكومة، غير مستعدين للدخول في مناقصة مماثلة، وخصوصاً مع عدم ثبات سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، ولأن الدولة لا يمكنها الدفع سوى بالليرة، فضلاً عن انعدام الثقة بإمكان تسديد المبلغ المتفق عليه. فكان أن تذرّع البعض بعدم إمكانية الحصول على كفالة من المصارف للهروب من هذه المهمة، فيما تقدّم عارض واحد لمناقصة تتعلق بترميم السرايا ولكن بمبلغ خيالي، فجرى رفض عرضه. لم يعد أمام السرايا والوزارات إلا انتظار تبدّل المزاج الدولي تجاه لبنان وإعادة فتح حنفية الدولارات، حتى تكون المباني الحكومية أيضاً جزءاً من صفقة إعادة الإعمار.